عنوان الفتوى : حكم العمل بأكثر من مذهب فقهي في العبادة
عندي استفسار بخصوص الاختلاف في الصلاة بين المذاهب، فأسمع أن هنالك بعض الخلافات بين المذاهب، لكني لا أعرف ما هي، إلا أني أُصلي كما تعلمت عندما كنت صغيرًا، وسؤالي هنا أنني قد أتبع في صلاتي مثلًا حد الجلوس عند الحنفية، لكني عند قراءة الفاتحة وراء المأموم قد أتبع مذهب الشافعية، هذا على سبيل المثال لا الحصر، وهنالك أمور كثيرة أخرى قد أفعلها، وتكون كل واحدة حسب مذهب مختلف، لكني لا أدري ما هو، وإنما أفعلها لأني تعلمت الصلاة كذلك، فهل يمكنني التنويع بين المذاهب في نفس الصلاة الواحدة، سواء كنت أُصلي منفردًا أم في جماعة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا حرج عليك في ما تفعله، وصلاتك لا تبطل بمثل ذلك، فإن الذي يلزمك طاعته، وتحرم عليك مخالفته هو النبي صلى الله عليه وسلم دون من سواه! فإن عرفت السنة في شيء من هيئات، أو أعمال الصلاة، فالتزمها، ولا بأس عليك، وقد نقل ابن القيم في إعلام الموقعين عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: أكثر المستفتين لا يخطر بقلبه مذهب معين عند الواقعة التي سأل عنها، وإنما سؤاله عن حكمها، وما يعمل به فيها. اهـ.
وقد سبق لنا بيان أنه لا حرج في أن يتبع الشخص أكثر من مذهب فقهي، وذلك في الفتوى رقم: 71362.
ورجح بعض أهل العلم أن للعامي المقلد جواز هذا حتى في العبادة الواحدة، طالما لم يقصد بذلك تتبع الرخص، قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: في التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان: المنع، وهو طريقة المصاروة، والجواز، وهو طريقة المغاربة، ورجحت. اهـ.
ونقل الرحيباني في مطالب أولي النهى عن الكرمي قوله في تعليقة له: اعلم أنه قد ذهب كثير من العلماء إلى منع جواز التقليد، حيث أدى إلى التلفيق من كل مذهب،؛ لأنه حينئذ كل من المذهبين أو المذاهب يرى البطلان، كمن توضأ مثلًا ومسح شعرة من رأسه مقلدًا للشافعي، ثم لمس ذكره بيده مقلدًا لأبي حنيفة، فلا يصح التقليد حينئذ، وكذا لو مسح شعرة، وترك القراءة خلف الإمام مقلدًا للأئمة الثلاثة، أو افتصد مخالفًا للأئمة الثلاثة، ولم يقرأ مقلدًا لهم.
وقال: وهذا وإن كان ظاهرًا من حيث العقل، والتعليل فيه واضح، لكنه فيه حرج ومشقة، خصوصًا على العوام، الذي نص العلماء على أنه ليس لهم مذهب معين، وقد قال غير واحد: لا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب معين، كما لم يلزم في عصر أوائل الأمة، والذي أذهب إليه وأختاره: القول بجواز التقليد في التلفيق، لا بقصد تتبع ذلك؛ لأن من تتبع الرخص فسق، بل حيث وقع ذلك اتفاقًا، خصوصًا من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك، فلو توضأ شخص، ومسح جزءًا من رأسه مقلدًا للشافعي، فوضوؤه صحيح بلا ريب، فلو لمس ذكره بعد ذلك مقلدًا لأبي حنيفة، جاز ذلك؛ لأن وضوء هذا المقلد صحيح، ولمس الفرج غير ناقض عند أبي حنيفة، فإذا قلده في عدم نقض ما هو صحيح عند الشافعي، استمر الوضوء على حاله بتقليده لأبي حنيفة، وهذا هو فائدة التقليد، وحينئذ فلا يقال: الشافعي يرى بطلان هذا الوضوء بسبب مس الفرج، والحنفي يرى البطلان لعدم مسح ربع الرأس فأكثر؛ لأنهما قضيتان منفصلتان؛ لأن الوضوء قد تم صحيحًا بتقليد الشافعي، ويستمر صحيحًا بعد اللمس بتقليد الحنفي، فالتقليد لأبي حنيفة إنما هو في استمرار الصحة، لا في ابتدائها، وأبو حنيفة ممن يقول بصحة وضوء هذا المقلد قطعًا، فقد قلد أبا حنيفة فيما هو حاكم بصحته، وكذا لو قلد العامي مالكًا، وأحمد في طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه، وكان قد ترك التدليك في وضوئه الواجب عند مالك، أو مسح جميع الرأس مع الأذنين الواجب عند أحمد؛ لأن الوضوء صحيح عند أبي حنيفة، والشافعي، والتقليد في ذلك صحيح، والروث المذكور طاهر عند مالك، وأحمد، وذلك في الجواز نظير ما لو حكم الحاكم في مختلف فيه، غاية ما هناك أن حكم الحاكم يرفع الخلاف من حيث لا يسوغ للمخالف نقضه سدًّا للنزاع، وقطعًا للخصومات، وهنا التقليد نافع عند الله تعالى، منج لصاحبه، ولا يسع الناس غير هذا. اهـ.
والله أعلم.