عنوان الفتوى : سر العذاب الأبدي للكفار، وأنواعه

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

جزاكم الله خيرًا على ما تقدمونه من خير للمسلمين، وأصبحت كثير التفكير في نار جهنم، والعذاب الذي يكون للكفار يوم القيامة؛ ما جعلني لا أستطيع النوم، ولا الأكل، وأنا أعرف أن الله عادل، ولكن ما الحكمة من كون هذا العذاب الأليم للكفار والمشركين إلى ما لا نهاية بسبب كفرهم بالله، أو شركهم به في فترة محددة؟ وهل الله يعلم أن مثل هؤلاء لا يمكن أن يؤمنوا أبدًا؟ وهل هذا تفسير الآية الكريمة: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون)؟ وهل يستطيع أحد منهم تحملها، أو يمكن أن يخفف الله عن بعضهم العذاب؟ وما هو زمهرير جهنم؟ وهل يكون عذاب الكفار بالنار الشديدة فترة، والبرد الشديد فترة أخرى؟ وما حكم سؤال مثل هذه الأسئلة ليطمئن قلب الإنسان المؤمن؟ وهل هي من شؤون الله التي لا يجوز أن يسأل العبد عنها؟ أتمنى أن تجيبوا عن أسئلتي بما قد يخفف عني الكثير من التفكير و الوساوس - بإذن الله -.

مدة قراءة الإجابة : 8 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن خلود أهل النار في النار عدلٌ محض؛ لأن العقوبة ملائمة للذنب، فلا ذنب في الوجود أعظم من الكفر بالله تعالى، فعظم لذلك عذابهم، وكتب عليهم الخلود الأبدي في النار؛ لأن الكفر الحاصل من الجاحدين لله غير مخصوص بزمن دون زمن، بل هو ملازم لهم؛ حتى لو أعيدوا إلى الأرض لعادوا إلى الكفر، كما أخبر الله تعالى، وهو الذي يعلم المعدوم لو وُجد كيف يكون، وقد علم في سابق علمه أن الخُبث قد تأصل في نفوس هؤلاء الخبثاء، بحيث إنهم لو عُذبوا القدْر من الزمن الذي عصوا الله فيه ثم عادوا إلى الدنيا لعادوا لما يستوجبون به العذاب؛ ولذلك قال تعالى في سورة الأنعام: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {الأنعام:27-28}.

وقد ذكر أهل العلم أن النية والقصد والعزيمة لها أثر في حصول عذاب الآخرة، فهم يعذبون عذابًا أبديًا لنيتهم البقاء على الكفر مدة حياتهم لو عاشوا حياة أبدية، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا التقى المسلمان بسيفيهما: فالقاتل والمقتول في النار، فقيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه. متفق عليه.

قال النووي: فيه دلالة للمذهب الصحيح الذي عليه الجمهور: أن من نوى المعصية، وأصر على النية يكون آثمًا، وإن لم يفعلها، ولا تكلم. انتهى.

وقال أبو بكر الحصني في دفع شبه من شبه وتمرد: لأن العذاب يدوم بدوام سببه بلا شك ولا ريب، وهو قصد الكفر، وبقاء العزم عليه، ولا شك أنهم لو عاشوا أبد الآباد لاستمروا على كفرهم، وكذلك المؤمن يستحق الخلود، وهذا معنى قوله: نية المؤمن خير من عمله. انتهى.

ثم إن نار جهنم يوجد فيها العذاب بالبرد، كما يوجد فيها العذاب بالحر - أعاذنا الله تعالى منها -.

وقد ورد في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير.

وفي رواية: قالت النار: رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير، فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم. رواها مسلم في صحيحه.

وقال الحافظ في الفتح: والمراد بالزمهرير شدة البرد، واستشكل وجوده في النار، ولا إشكال فيه؛ لأن المراد بالنار محلها، وفيها طبقة زمهريرية ... اهـ

وأما عن عذابهم بالحر أحيانًا، وبالبرد أحيانًا: فقد روى ابن ابي حاتم ما يؤيده عن ابن عباس في تفسيره إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا {النبأ:25}، قال: الحميم الحار الذي يحرق، الغساق الزمهرير البارد. اهـ

وقال ابن كثير: قال الحسن البصري في قوله: {وآخر من شكله أزواج} ألوان من العذاب.
وقال غيره: كالزمهرير، والسموم، وشرب الحميم، وأكل الزقوم، والصعود، والهوي، إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة، والمتضادة، والجميع مما يعذبون به، ويهانون بسببه. اهـ
وقال الألوسي في تفسير آية: ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ {لقمان:24}: والمراد بالاضطرار أي: الإلجاء، إلزامهم ذلك العذاب الشديد إلزام المضطر، الذي لا يقدر على الانفكاك مما ألجئ إليه، وفي الانتصاف تفسير هذا الاضطرار ما في الحديث من أنهم لشدة ما يكابدون من النار يطلبون البرد، فيرسل عليهم الزمهرير، فيكون أشد عليهم من اللهب، فيتمنون عود اللهب اضطرارًا فهو اختيار عن اضطرار. اهـ.

وقال ابن رجب في التخويف من النار: عن ابن عباس قال : يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر.

وعن عبد الملك بن عمير قال: بلغني أن أهل النار يسألون خازنها أن يخرجهم إلى جانبها فيخرجهم فيقتلهم البرد والزمهرير حتى يرجعوا إليها، فيدخلوها مما وجدوا من البرد.

وروى أبو نعيم بإسناده عن ابن عباس أن كعبًا قال: في جهنم بردًا هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهنم. اهـ

وأما  السؤال عن هذا: فالأصل فيه الجواز، ولكن الأولى بالمسلم أن يشتغل بدراسة الوحيين، ويبتعد عن الاشتغال بالشبه، والاسترسال مع الشيطان في شأنها، وأن يحذر من الاطلاع على مقالات المشركين والمخالفين لأهل السنة، ومن استماع شبههم، فإن السلامة لا يعدلها شيء،  قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: وقال لي شيخ الإسلام - رضي الله عنه ـ وقد جعلت أورد عليه إيرادًا بعد إيراد ـ لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها، ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرًّا للشبهات ـ أو كما قال ـ فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل ... انتهى .

هذا وينبغي للمسلمين الذين عرفوا الإسلام، وعرفوا مصير هؤلاء الكفار أن يحولوا قلقهم من مصير الكفار إلى عمل مثمر يفيدهم ويفيد الكفار، فينشطون في دعوتهم إلى الله، وبيان محاسن الإسلام لهم، ويحدثونهم عن حياة الآخرة، وأهوالها، ونعيمها، وأن الإسلام هو الحل الوحيد للظفر بالسعادة في الدارين، والأمن من العذاب، وعليهم أن يبينوا مثل ذلك لعصاة المؤمنين حتى يتوبوا وينيبوا إلى ربهم قبل الموت، وعليهم أن يستخدموا في ذلك ما تيسر من وسائل الإقناع العقلي، والتأثير العاطفي، فيرغبونهم ويرهبونهم، ويحاورونهم، ويجادلونهم بالتي هي أحسن، وينبغي لهم أن يصبروا عليهم، ويدعوا لهم، ويرسلوا لهم رسائل مسموعة ومقروءة عبر وسائل الاتصال؛ حتى يقرأها الواحد وهو منفرد بنفسه، ويراجع نفسه في محتواها.

فإن أعظم ما يكسبه المسلم هو اهتداء شخص على يديه، كما في حديث البخاري: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم.والله أعلم.