عنوان الفتوى : هل السجود والركوع على سبيل التحية من الشرك؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

قرأت في أحد المواقع أن السجود لغير الله اذا كان على وجه التحية كفر وشرك ؛ لأن السجود عبادة لا يجوز صرفها لغير الله، فهل هذا صحيح ؟

مدة قراءة الإجابة : 13 دقائق


الحمد لله
أولاً :
السجود – ومثله الانحناء والركوع - نوعان :
الأول: سجود عبادة .
وهذا النوع من السجود يكون على وجه الخضوع والتذلل والتعبد ، ولا يكون إلا لله سبحانه وتعالى ، ومن سجد لغير الله على وجه العبادة : فقد وقع في الشرك الأكبر .
الثاني : سجود تحية .
وهذا النوع من السجود : يكون على سبيل التحية والتقدير والتكريم للشخص المسجود له.
وقد كان هذا السجود مباحاً في بعض الشرائع السابقة للإسلام ، ثم جاء الإسلام بتحريمه ومنعه.
فمن سجد لمخلوق على وجه التحية فقد فعل محرماً ، إلا أنه لم يقع في الشرك أو الكفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " السُّجُودُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : سُجُودُ عِبَادَةٍ مَحْضَةٍ ، وَسُجُودُ تَشْرِيفٍ ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/361).
وقال : " وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى: أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ ". انتهى من " مجموع الفتاوى" (4/358).
وقال : " فإن نصوص السنة ، وإجماع الأمة : تُحرِّم السجودَ لغير الله في شريعتنا ، تحيةً أو عبادةً ، كنهيه لمعاذ بن جبل أن يسجد لما قدمَ من الشام وسجدَ له سجود تحية".
انتهى من "جامع المسائل" (1/25).
وقال القرطبي : " وَهَذَا السُّجُودُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ : قَدِ اتَّخَذَهُ جُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَةِ عَادَةً فِي سَمَاعِهِمْ، وَعِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَى مَشَايِخِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ ، فَيُرَى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا أَخَذَهُ الْحَالُ ـ بِزَعْمِهِ ـ يَسْجُدُ لِلْأَقْدَامِ ، لِجَهْلِهِ ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ لِلْقِبْلَةِ أَمْ غَيْرِهَا ، جَهَالَةً مِنْهُ ، ضَلَّ سَعْيُهُمْ وَخَابَ عَمَلُهُمْ". انتهى من "تفسير القرطبي" (1/294).
ثانياً :
وأما القول بأن السجود لغير الله شرك مطلقاً ، لأن مطلق السجود عبادة لا تصرف لغير الله ، فقول ضعيف ، ويدل على ذلك :
1-أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم ، ولو كان مجرد السجود شركاً لما أمرهم الله بذلك .
قال الطبري : " ( فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) : سُجُودُ تَحِيَّةٍ وَتَكْرِمَةٍ ، لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ".
انتهى من "جامع البيان" (14/65).
وقال ابن العربي : " اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِآدَمَ ، لَمْ يَكُنْ سُجُودَ عِبَادَةٍ".
انتهى من "أحكام القرآن" (1/27).
وقال ابن حزم الظاهري : " وَلَا خلاف بَين أحد من أهل الْإِسْلَام فِي أَن سجودهم لله تَعَالَى سُجُود عبَادَة ، ولآدم سُجُود تَحِيَّة وإكرام" انتهى من "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (2/129).
2- أن الله أخبرنا عن سجود يعقوب وبنيه ليوسف عليه السلام ، ولو كان شركاً لما فعله أنبياء الله .
ولا يقال هنا : إن هذا من شريعة من قبلنا ، فإن الشرك لم يبح في شريعة قط ، فالتوحيد لم تتغير تعاليمه وشرائعه منذ آدم إلى نبينا محمد عليهم الصلاة والسلام .
قال الطبري : " قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا): ذَلِكَ السُّجُودُ تَشْرِفَة ، كَمَا سَجَدَتِ الْمَلَائِكَةُ لِآدَمَ تَشْرِفَةً ، لَيْسَ بِسُجُودِ عِبَادَةٍ.
وَإِنَّمَا عَنَى مَنْ ذَكَرَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ السُّجُودَ كَانَ تَحِيَّةً بَيْنَهُمْ ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى الْخُلُقِ ، لَا عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ قَدِيمًا ، عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ:
فَلَمَّا أَتَانَا بُعَيْدَ الْكَرَى ** سَجَدْنَا لَهُ وَرَفَعْنَا الْعَمَارَا " انتهى من "جامع البيان" (13/356).
وقال ابن كثير : " وَقَدْ كَانَ هَذَا سَائِغًا فِي شَرَائِعِهِمْ ؛ إِذَا سلَّموا عَلَى الْكَبِيرِ يَسْجُدُونَ لَهُ ، وَلَمْ يَزَلْ هَذَا جَائِزًا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى شَرِيعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَحُرِّمَ هَذَا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ ، وجُعل السُّجُودُ مُخْتَصًّا بِجَنَابِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" انتهى من "تفسير القرآن العظيم" (4/412).
وقال القاسمي: " الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل ، وإنما كان سجود كرامة فقط ؛ بلا شك" انتهى من "محاسن التأويل" (6/250).
3-أن معاذاً سجد للنبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الشام، ولو كان شركا لبين له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، وقصارى ما في الأمر أنه بين له عدم جواز السجود له .
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ، قَالَ : " لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟ ) ، قَالَ : أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ ، فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( فَلَا تَفْعَلُوا، فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا) رواه ابن ماجه (1853) وحسنه الألباني.
قال شيخ الإسلام : " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَعْبُدَ".
انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/360).
وقال الذهبي : " أَلا ترى الصحابة في فرط حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا ألا نسجد لك ، فقال: لا ، فلو أذن لهم لسجدوا له سجود إجلال وتوقير ، لا سجود عبادة ، كما قد سجد إخوة يوسف عليه السلام ليوسف .
وكذلك القول في سجود المسلم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم والتبجيل : لا يكفر به أصلاً ، بل يكون عاصياً ، فليعرَّفْ أن هذا منهي عنه ، وكذلك الصلاة إلى القبر".
انتهى من "معجم الشيوخ الكبير" (1/73).
4- أنه ثبت في بعض الأحاديث سجود بعض البهائم للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كان مجرد السجود شركاً لما حصل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم .
قال شيخ الإسلام : " وَقَدْ كَانَتْ الْبَهَائِمُ تَسْجُدُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْبَهَائِمُ لَا تَعْبُدُ إلا اللَّهَ ، فَكَيْفَ يُقَالُ : يَلْزَمُ مِنْ السُّجُودِ لِشَيْءِ عِبَادَتُهُ ؟!" انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/360).
5-أن "السجود المجرد" من الأحكام التشريعية التي قد يتغير حكمها من شريعة لأخرى ، بخلاف أمور التوحيد التي تقوم بالقلب ؛ فهي ثابتة لا تتغير.
قال شيخ الإسلام : " أمَّا الْخُضُوعُ وَالْقُنُوتُ بِالْقُلُوبِ ، وَالِاعْتِرَافُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ : فَهَذَا لَا يَكُونُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ ، وَهُوَ فِي غَيْرِهِ مُمْتَنِعٌ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا السُّجُودُ : فَشَرِيعَةٌ مِنْ الشَّرَائِعِ ؛ إذْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَسْجُدَ لَهُ ، وَلَوْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْجُدَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرِهِ : لَسَجَدْنَا لِذَلِكَ الْغَيْرِ ، طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، إذْ أَحَبَّ أَنْ نُعَظِّمَ مَنْ سَجَدْنَا لَهُ،. وَلَوْ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا السُّجُودَ لَمْ يَجِبْ أَلْبَتَّةَ فِعْلُهُ .
فَسُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ : عِبَادَةٌ لِلَّهِ ، وَطَاعَةٌ لَهُ وَقُرْبَةٌ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَيْهِ ، وَهُوَ لِآدَمَ تَشْرِيفٌ وَتَكْرِيمٌ وَتَعْظِيمٌ.
وَسُجُودُ إخْوَةِ يُوسُفَ لَهُ : تَحِيَّةٌ وَسَلَامٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ يُوسُفَ لَوْ سَجَدَ لِأَبَوَيْهِ تَحِيَّةً ، لَمْ يُكْرَهْ لَهُ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/360).
6-أن التفريق بين سجود التحية وسجود العبادة هو ما عليه جمهور العلماء من مختلف المذاهب.
قال فخر الدين الزيلعي: " وَمَا يَفْعَلُونَ مِنْ تَقْبِيلِ الْأَرْضِ بَيْنَ يَدَيْ الْعُلَمَاءِ : فَحَرَامٌ ، وَالْفَاعِلُ وَالرَّاضِي بِهِ : آثِمَانِ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عِبَادَةَ الْوَثَنِ .
وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهَذَا السُّجُودِ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ التَّحِيَّةَ " .
انتهى من "تبيين الحقائق" (6/25).
وقال ابن نجيم الحنفي : " وَالسُّجُودُ لِلْجَبَابِرَةِ : كُفْرٌ ، إنْ أَرَادَ بِهِ الْعِبَادَةَ ؛ لَا إِنْ أَرَادَ بِهِ التَّحِيَّةَ ، عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ" انتهى من "البحر الرائق" (5/134).
وقال النووي : " مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْجَهَلَةِ مِنْ السُّجُودِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَشَايِخِ .. ذَلِكَ حَرَامٌ قَطْعًا ، بِكُلِّ حَالٍ ، سَوَاءٌ كَانَ إلَى الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرِهَا ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ السُّجُودَ لِلَّهِ تَعَالَى ، أَوْ غَفَلَ ، وَفِي بَعْضِ صُوَرِهِ مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ ، أَوْ يُقَارِبُهُ ، عَافَانَا اللَّهُ الْكَرِيمُ ".
انتهى من "المجموع شرح المهذب" (4/69).
وقال شهاب الدين الرملي : " مُجَرَّد السُّجُودِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَشَايِخِ : لَا يَقْتَضِي تَعْظِيمَ الشَّيْخِ كَتَعْظِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَعْبُودًا، وَالْكُفْرُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ ذَلِكَ " .
انتهى من "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (1/122).
وقال الرحيباني : " السُّجُودُ لِلْحُكَّامِ وَالْمَوْتَى بِقَصْدِ الْعِبَادَةِ : كَفْرٌ ، قَوْلًا وَاحِدًا ، بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَالتَّحِيَّةُ لِمَخْلُوقٍ بِالسُّجُودِ لَهُ : كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ" .
انتهى من "مطالب أولي النهى" (6/ 278) .
وقال الشوكاني : " فلا بد من تقييده بأن يكون سجوده هذا قاصدا لربوبية من سجد له ، فإنه بهذا السجود قد أشرك بالله عز وجل ، وأثبت معه إلهًا آخر .
وأما إذا لم يقصد إلا مجرد التعظيم ، كما يقع كثيرا لمن دخل على ملوك الأعاجم : أنه يقبل الأرض تعظيما له ، فليس هذا من الكفر في شيء ، وقد علم كل من كان من الأعلام ، أن التكفير بالإلزام ، من أعظم مزالق الأقدام ؛ فمن أراد المخاطرة بدينه ، فعلى نفسه تَجَنَّى".
انتهى من "السيل الجرار" (4/580).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم : " الانحناء عند السلام حرام ، إذا قصد به التحية ، وأَما إن قصد به العبادة فكفر". انتهى من "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (1/109).
وقال الشيخ عبد العزيز عبد اللطيف : " فمن المعلوم أن سجود العبادة ، القائم على الخضوع والذل والتسليم والإجلال لله وحده : هو من التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل، وإن صرف لغيره فهو شرك وتنديد .
ولكن لو سجد أحدهم لأب أو عالم ونحوهما ، وقصده التحية والإكرام : فهذه من المحرمات التي دون الشرك ، أما إن قصد الخضوع والقربة والذل له فهذا من الشرك" .
انتهى من "نواقض الإيمان القولية والعملية" (ص: 278).
وينظر جواب السؤال : (8492) .