عنوان الفتوى : حكم تزوير الانتخابات لصالح مرشح إسلامي ضد علماني
أولا أشكركم على هذه الخدمة الجليلة للإسلام والمسلمين، وأسأل الله أن يثقل بها موازينكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. منذ فترة كنت أسائل نفسي: كيف أفرق بين (الخيانة للأمانة) لدى الشخص المسلم حتى في تعامله مع الأعداء والمنافقين، ومن هم على غير الإسلام؛ وبين (الحرب خدعة) للتحايل لنصرة الإسلام؛ وهذه الإشكالية برزت لدي عندما فكرت في الانتخابات الرئاسية في إحدى البلدان الإسلامية؛ ففي الدورة النهائية للمرشحين بقي في السباق الرئاسي شخصان متناقضان تماما في كل شيء: أحدهم ( علماني قح، عدو ظاهر للإسلام، ويسعى حين فوزه للتخلص من كل ما له صلة بالإسلام والمسلمين، ويكرس هيمنة الأقليات غير المسلمة في البلد) والشخص الثاني ( رجل متدين من التيار الإسلامي السياسي، يحفظ القرآن الكريم، ولم يعرف في تاريخه ما يشينه، ويسعى حين فوزه لإعلاء تطبيق الشريعة الإسلامية على كل شيء، ودعم العلماء والدعاة بحيث يتسنى لهم أن ينشروا الدعوة الإسلامية وتعاليمها، ليبلغوها أكثر شريحة ممكنة من الشعب، وسيقوم بإصلاحات اجتماعية، ومحاربة الفساد الإداري والأخلاقي ) و
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فحاصل ما نراه في هذه المسألة أنه لا يجوز التزوير لصالح مرشح يرى المزور أن في نجاحه مصلحة شرعية، وذلك لحرمة التزوير أولا؛ ولما قد يترتب عليه من مضار ومفاسد لو اطلع عليه ثانيا. وليس التزوير مشمولا بمدلول المخادعة المأذون فيها في الحرب.
هذا من حيث الإجمال، أما من حيث التفصيل فإننا نقول: إن حال الحرب هو الذي يشرع بل يحسن فيه المخادعة، كما في الحديث: الحرب خدعة. ومع ذلك فإن ذلك مقيد بعدم الغدر والخيانة ولو مع الكفار ! ولذلك كان رسول الله إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا .. " رواه مسلم.
وجاء في (الموسوعة الفقهية): الخديعة ـ بمعنى إظهار الإنسان خلاف ما يخفيه - حرام إذا كان فيها خيانة أمانة، أو نقض عهد. وهذا لا يعلم فيه خلاف بين علماء الأمة، وتواترت نصوص الكتاب والسنة المطهرة في النهي عنها ... أما الخديعة في حق غير المسلمين في الحرب، فإن كان بينهم وبين المسلمين عهد، فلا يجوز الخدع، ولا التبييت بالهجوم الغادر، وهم آمنون مطمئنون إلى عهد لم ينقض، ولم ينبذ حتى لو كنا نخشى الخيانة من جانبهم ... وأما إذا استشعر الإمام عزمهم على الخيانة بأمارات تدل عليها لا بمجرد توهم، لم ينتقض عهدهم، ولا يجوز خدعهم ولا تبييتهم بهجوم غادر، وهم آمنون مطمئنون إلى عهد لم ينقض ولم ينبذ. بل ينبذ إليهم العهد ثم يقاتلهم، قال الله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين}.
قال الشوكاني في تفسير الآية: "إما تخافن من قوم خيانة: أي غشا، ونقضا للعهد من القوم المعاهدين، فاطرح إليهم العهد الذي بينك وبينهم، {على سواء} أي أخبرهم إخبارا ظاهرا مكشوفا بالنقض، ولا تناجزهم الحرب بغتة". فأما بعد أن نبذ إليهم عهدهم، وصار علمهم وعلم المسلمين بنقضه على سواء، وبعد أن أخذ كل خصم حذره، فإن كل وسائل الخدعة مباحة؛ لأنها ليست غادرة، فمن جازت عليه الخدعة والحالة هذه، فهو غافل وليس بمغدور به. اهـ.
فينبغي التفريق بين الخيانة ـ فهي مذمومة على أية حال ـ وبين الخديعة التي قد تحمد وقد تذم بحسب الحال.
قال الشيخ ابن عثيمين في (شرح العقيدة السفارينية): الخيانة لا تدخل في صفات الله؛ لأنها ذم وقدح بكل حال، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا تخن من خانك". وقال: "الحرب خدعة". فأذن بالخدعة في محلها وهو الحرب، ونهى عن الخيانة في محلها، فقال: "لا تخن من خانك". مع أن الإنسان قد تسول له نفسه أن يخون من خانه؛ لأن الله تعالى قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: الآية 194) لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخن من خانك" فإذا ائتمنك إنسان بشيء وقد خانك من قبل فلا تخنه فيه؛ لأن الخيانة وصف ذم على الإطلاق. اهـ.
وقال الشيخ ابن جبرين في (شرح عمدة الأحكام) عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا جمع الله الأولين والآخرين، يرفع لكل غادر لواء.
قال: أما ما يحتج به بعضهم من أن الحرب خدعة، فإن هذا لا يصلح دليلاً؛ لأن قوله: "الحرب خدعة" بمعنى: أنك تخدعهم إذا رأيتهم مجتمعين، وأتيتهم على أنك ليس بينك وبينهم عهد ولا ذمة، ولا أمان، فتأتيهم كأنك مسالم أو نحو ذلك، وأنت تقصد بذلك قتالهم، أو تأتيهم وهم غافلون ونحو ذلك، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، فهذا من الحرب الذي قال فيه: "الحرب خدعة". ولا يصلح أن يكون فيه نقض للعهد، ولا الخيانة، ولا نقض الأمان ونحو ذلك، بل هذه الثلاثة: العهد، والأمان، والذمة، يجب الوفاء بها، ولا يجوز نقضها بحال مع كافر أو مع مسلم. اهـ.
ومما يؤكد ذلك ما قاله حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدا؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا ! نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم. رواه مسلم.
قال ابن الجوزي في (كشف المشكل): في هذا الحديث من الفقه حفظ الوفاء بالعهد ولو للمشرك، فيما يمكن الوفاء به. اهـ.
ولا يخفى أن القائمين على أمر الانتخابات ونحوها مؤتمنون على نزاهة هذه العملية، وذلك من جملة الأمانات التي يجب أداؤها على وجهها. وما ذكره الأخ السائل لا يبرر خيانة الأمانة؛ فإن الغاية لا تبرر الوسيلة.
ثم إن من لهم حق التصويت إما أن يكون أكثرهم من أهل الخير والفضل، ويرفضون من وصفه السائل بأنه علماني قح، وعدو ظاهر للإسلام ... الخ. وفي هذه الحال لا تحتاجون إلا لضمان نزاهة الانتخابات، وعدم العبث والتلاعب بإجراءاتها.
وإما أن تكون الأكثرية من أهل الفساد وسيختارون العلماني المظهر للعداوة للإسلام وأهله، ففي هذه الحال تكون الحاجة إلى دعوة هؤلاء للخير، وبيان معالم هذا الدين الحق لهم، أولى.
وهنا ننبه على أن سلوك مسالك التزوير سيكون لها إضرار بالغ حين كشفه، حيث سيشيع عن التيار الإسلامي أنهم مزورون !! ولا يخفى ما في ذلك من الضرر والمفاسد، بالإضافة إلى فساد التزوير في ذاته ! وهذا مما علل به بعض أهل العلم إقرار النبي صلى الله عليهم وسلم لعهد المشركين مع حذيفة.
قال النووي: لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام ونائبه، ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يشيع عن أصحابه نقض العهد، وإن كان لا يلزمهم ذلك؛ لأن المشيع عليهم لا يذكر تأويلا. اهـ.
والله أعلم.