سلامة الصدر من الأحقاد - محسن العزازي
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
الحمد لله وكفى والصلاة على النبي المصطفى.
أما بعد:
لابد لكل مجتمع من أخلاق تشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وأخلاقنا وإن أتت عليه عوادي الزمان والحدثان إلا أنه راسخ في صدورنا ينتظر غيث الرحمن، حتى إذا ما جاء نمت أغصانه، وأينعت ثماره، فآتى أكله كل حين بإذن ربه.
ومجتمع بلا أخلاق مجتمع غابة يأكل القوي فيه الضعيف، وفرد بلا أخلاق حيوان شرس، بل سبع فتاك مفترس.
ولقد عني الإسلام بالأخلاق، وربط بينها وبين العبادات، وجعل مناط قبول العبادة بمدى استقامة الأخلاق ، فتأمل ذلك المزج الرباني بين العبادة والأخلاق بين الدين والدنيا بين المسجد وما كان خارج المسجد قال تعالى عن الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
وفي الصيام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا كان صيام يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب»، وفى الزكاة قال الله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263]، وفى الحج قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].
وقد فطن الغرب إلى هذه العلاقة بين الدين والأخلاق فتجد الفيلسوف الألماني (فنجته) يقول: "أخلاق بلا دين عبث"، والزعيم الهندي(غاندي) يقول: "الأخلاق والدين متلازمان لا ينفصل أحدهم عن الآخر، فهما كالماء للزرع يغذيه وينميه"، بل إن بقاء الأمم وقوتها تُقاس بمدى تمسك أهلهُا بالأخلاق، وهلاكُهُا بضياع خُلقها قال الشاعر أحمد شوقي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ويلخص هذا كله رسولنا الكريم حيث قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فيبين لنا الغاية من بعثته صلى الله عليه وسلم.
الحمد لله أن بعث فينا نبيا *** يعلمنا مكارم الأخلاق الذكية
ومع مكرمة من مكارم الإسلام وخلق من أخلاق النبي العدنان مع سلامة الصدر من الأحقاد، فهي الغاية بعدما شوهت الصحف، والمجلات، والفضائيات ذلك القلب بالأحقاد، وزرعت بين أبناء الأمة الفرقة والشقاق، وسوف نتعرف من خلال كلمتنا على: القلب المشرق، وبعض من أطوار الحقد، وعلاج ذلك القلب.
اعلم أخي الحبيب: أنه ليس أروح للمرء، ولا أطرد لهمومه، ولا أقر لعينيه، من أن يعيش سليم الصدر مبرأ من وسواس النفس ، وأدران الحقد إذا رأى نعمة تنساق إلى أحد من عباد الله فرح له، ورأى فضل الله فيها، وفقر العباد إليها، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد والشكر».
وإذا رأى أذى يلحق أحدًا من عباد الله رثى له، وواساه في مصيبته، ودعا الله أن يغفر ذنبه، ويكشف كربه، وتذكر مناشدة النبي صلى الله عليه وسلم: «إن تغفر اللهم تغفر جما *** وأي عبد لك ما ألما»
وهكذا يعيش المسلم راضيًا عن الله، وعن الحياة؛ فإن القلب إذا أصيب بأدران الحقد سرعان ما يتسرب منه الإيمان كما يتسرب السائل من الإناء المثلوم، فصاحب القلب الأسود يفسد الأعمال الصالحة، أما القلب المشرق: فإن الله يبارك في قليله.
والمجتمع المسلم مجتمع متحاب متعاون يقوم على الإخاء والإيثار، وكيف لا؟! وهذا التآلف وتلك الأخوة من عند الله قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]، أي بنعمة الإيمان، فانظر إلى قلبك إذا رأيت فيه الحقد والحسد فاعلم أن هناك نقص في إيمانك، فاجبر الكسر قبل أن ينسكب من القلب الإيمان فتعجز عن رده، وقد زكى الله تعالى أصحاب القلوب العامرة بالحب لله ولعباد الله في كتابه الكريم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10].
روى بن ماجة فى الزوائد عن عبد الله بن عمرو قِيل: "يا رسول الله أي الناس أفضل؟" قال صلى الله عله وسلم: «كل مخموم القلب صدوق اللسان ».
قيل: "صدوق اللسان نعلمه، فما مخموم القلب؟" قال صلى الله عله وسلم: «هو التقي النقي لا أثم فيه ولا بغى ولا غل ولا حسد».
انظر إلى حرص الصحابة رضى الله عنهم على الأفضلية في الدين، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون، فيحدد النبي صلى الله عله وسلم أن الأفضلية ليست في الشهرة ولا المال ولا الجاه ولا السلطان ولا كثرة العيال ، بل إن الأفضلية تتحقق في جارحتين هما القلب واللسان وبهما تتحقق الاستقامة الايمانية.
روى البخارى عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستقيم إيمان العبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه»، ثم يعرف لهم النبي مخموم القلب بأنه: ذلك القلب التقي، والتقوى كما عرفها الإمام علي كرم الله وجهه: "الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضى بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل".
وهو النقي ويؤكد نقائه بخلوه من الإثم، والإثم كما عرفه النبى صلى الله عليه وسلم: «هو ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس».
فلتحذر أيها المسلم أطوار الحقد:
روى الطبراني عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبيئكم بشراركم؟» قالوا: "بلى إن شئت يا رسول الله"، قال: «إن شراركم من ينزل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده.
ألا أنبئكم بشر من ذلك؟» قالوا: "بلى إن شئت يا رسول الله".
قال: «من يبغض الناس ويبغضونه.
ألا أنبئكم بشر من ذلك؟» قالوا: "بلى إن شئت يا رسول الله".
قال: «الذين لا يقيلون عسرة، ولا يقبلون معذرة، ولا يغفرون ذنبًا.
ألا أنبئكم بشر من ذلك؟»، قالوا: "بلى إن شئت يا رسول الله"، قال: «من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره».
هذه بعض من أطوار الحقد التى تأنفها النفس البشرية حتى فى جاهليتها يقول عنترة:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب *** ولا ينال العلى من طبعه الغضب
ومن أطوار الحقد أيضا الحسد ، وقد أمرنا الله تعالى بالاستعاذة منه، فهو من صفات إبليس عليه لعنة الله، فقد رأى أن المكانة التى كان يرجوها لنفسه وقد ذهبت إلى آدم عليه السلام، فأقسم بقلب يملؤه الحقد بغواية بني آدم يقول رب العزة مخبرًا عن إبليس: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]
جاء فى الترغيب والترهيب للمنزري يقول الشاعر:
يا حاسدًا لي على نعمتي *** أتدري على من أسأت الأدب؟
أسأت على الله في حكمه *** لأنك لم ترضى لي ما وهب
فأخزاك ربى بأن زادني *** وسدّ عليك وجوه الطلب
واعلم أخي الحبيب: أن الخصومة إن غارت جذورها، ونمت أشواكها شلت أركان الإيمان الغض، وكان من ثمارها ألا يكون فى أداء العبادات المفروضة خير، كما أنها تُذْهِبْ بألباب العقول؛ فَتُدْلِي بصاحبها إلى اقتراف الصغائر التي تَذْهَبُ بالمروة واقتراف الكبائر التي تُوجب اللَّعن، وعين الخصومة عمياء لا ترى الفضائل وتعظم الرذائل وتجر صاحبها إلى التخيل، وافتراء الأكاذيب.
علاج القلوب من الحقد من أفضل القربات:
ومن ذلك إصلاح ذات البين روى الترمزي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من الصيام والصلاة والصدقة» قالوا: "بلى إن شئت يا رسول الله".
قال: «إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هى الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين».
وروى الترمذي عن الزبير بن العوام رضى الله عنه: أن النبي صلى الله قال:«دب إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السلام بينكم».
فالشيطان وإن عجز من أن يجعل من الرجل العاقل عابد صنم، فإنه لم ييأس من إيقاد نار العداوة في القلوب، فمن حقده يود إهلاك بنى آدم يقول رب العزة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة:91].
وروى مسلم فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قد يأس أن يعبده المصلون فى جزيرة العرب ولكنه لم ييأس من التحريش بينهم».
النهي عن التقاطع والتدابر؛ روى البخاري فى صحيحه عن أبي هريرة رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله غليه وسلم: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحسدو وكونوا عباد الله إخوان ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث»، وفى رواية عند أبى داود: «لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنًا فوق ثلاث، فإن لقيه فليلقه السلام، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه السلام، فقد باء بالإثم وخرج المسلم من الهجرة»، وما جعل الإسلام تلك الثلاث إلا لتهدأ فيها النفس وتراجع نفسها فالإنسان عند الخصومة أحد شخصين:
إما ظالم فأوجب الإسلام عليه التوبة إلى الله تعالى ورد المظلمة إلى أهلها.
روى البخاري عنى أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عله وسلم قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض، أو من شيء فليتحلل منه من قبل ألا يكون دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه».
وإما مظلومًا فقد رغب الإسلام في العفو وقبول المعذرة فعدم قبول المعذرة خطأ كبير روى ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اعتذر إليه أخيه المسلم فلم يقبل منه كانت عليه مثل خطيئة صاحب مكس»، وفى رواية عند الطبراني قال صلى الله عليه وسلم: «من تنصل إليه فلم يقبل لم يرد على الحوض».
النهي عن الافتراء على الناس؛ روى مسلم عن أبى هريرة قال رسول الله: «أتدرون أربى الربا عند الله؟» قالوا الله ورسوله أعلم.
قال: «أربى الربا استحلال عرض أمرئ مسلم»، ثم تلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [ سورة الأحزاب:58].
كشف الأسرار وإشاعتها؛ وفى ذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
النهى عن الغيبة ؛ قال رسول الله: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: "الله ورسوله أعلم" قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: "أرأيت إن كان فيه ما نقول؟" قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته».
النميمة؛ قال رسول الله: «لا يخبرني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا أكرهه، فإني أحب أن أخرج عليكم وأنا سليم الصدر»، وقال: «لا يدخل الجنة نمام» وفى رواية «قتات».
إفشاء السلام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ألا ادلكم على ما يثبت ذاكم لكم أفشو السلام بينكم».
وقد وضع الإسلام علاج للقلب يومي روى ابن ماجه قال رسول الله: «ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرًا: رجل أمّ الناس وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، أخوان متصارمان».
وآخر أسبوعي، فالأعمال تعرض على الله كل اثنين وخميس، روى مسلم: قال رسول الله: «تعرض الأعمال كل أثنين وخميس فيغفر الله لكل من لم يشرك بالله شيئًا إلا امرء بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أتركوا هذين حتى يصطلحا».
وفى كل عام يقول رسول الله: «إن الله يطلع على عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم».
أبو عبد الله محسن بن أحمد