عنوان الفتوى : آيات الصفات محكمة من وجه ومتشابهة، والتشابه والإحكام نوعان
هل الآيات القرآنية التي فيها صفات لله هي آيات محكمات مثل: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، تبارك الذي بيده الملك، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، يوم يكشف عن ساق، إلى قوله تعالى: يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله، وجاء ربك والملك صفا صفا؟ وهل هي آيات على ظاهرها؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه الآيات وأمثالها من نصوص الصفات إن أريد معرفة معناها فهي من المحكم، وإن أريد معرفة كنهها وكيفيتها فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، كما قال الإمام مالك وغيره من أئمة السلف في صفة الاستواء على العرش: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ـ أو: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
وراجع الفتويين رقم: 190949، ورقم: 7256.
ومعرفة المعنى هو التفسير، وأما معرفة الكيف فهي التأويل المذكور فيه قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ {آل عمران: 7}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المعنى الذي يراد به هذا في حق المخلوقين لا يجوز أن يكون نظيره ثابتا لله، فلهذا صار متشابها، وكذلك قوله: ثم استوى على العرش ـ فإنه قد قال: واستوت على الجودي ـ وقال: فاستوى على سوقه ـ وقال: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ـ وقال: لتستووا على ظهوره ـ فهذا الاستواء كله يتضمن حاجة المستوي إلى المستوى عليه، وأنه لو عدم من تحته لخر، والله تعالى غني عن العرش وعن كل شيء، بل هو سبحانه بقدرته يحمل العرش وحملة العرش.. فصار لفظ الاستواء متشابها يلزمه في حق المخلوقين معاني ينزه الله عنها، فنحن نعلم معناه وأنه العلو والاعتدال، لكن لا نعلم الكيفية التي اختص بها الرب التي يكون بها مستويا من غير افتقار منه إلى العرش، بل مع حاجة العرش وكل شيء محتاج إليه من كل وجه، وأنا لم نعهد في الموجودات ما يستوي على غيره مع غناه عنه وحاجة ذلك المستوى عليه إلى المستوي، فصار متشابها من هذا الوجه، فإن بين اللفظين والمعنيين قدرا مشتركا، وبينهما قدرا فارقا هو مراد في كل منهما، ونحن لا نعرف الفارق الذي امتاز الرب به فصرنا نعرفه من وجه ونجهله من وجه، وذلك هو تأويله، والأول هو تفسيره. اهـ.
ولما كان كثير من المتأخرين يقررون مذهب التفويض وينسبونه للسلف، كنا في حاجة إلى تأكيد القول بأن السلف يثبتون معاني الصفات، ويفوضون الكيفية، وراجع الفتويين رقم: 198335، ورقم: 134998.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: الذين يستمسكون بالمتشابه في رد المحكم، لهم طريقان في رد السنن: أحدهما: ردها بالمتشابه من القرآن أو من السنن، الثاني: جعلهم المحكم متشابها ليعطلوا دلالته، وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق: فعكس هذه الطريق، وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم وتوافق النصوص بعضها بعضا، ويصدق بعضها بعضا، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره، ولنذكر لهذا الأصل أمثلة لشدة حاجة كل مسلم إليه أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب:
المثال الأول: رد الجهمية النصوص المحكمة غاية الإحكام المبينة بأقصى غاية البيان أن الله موصوف بصفات الكمال من العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر والوجه واليدين والغضب والرضا والفرح والضحك والرحمة والحكمة وبالأفعال كالمجيء والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا ونحو ذلك، والعلم بمجيء الرسول بذلك وإخباره به عن ربه إن لم يكن فوق العلم بوجوب الصلاة والصيام والحج والزكاة وتحريم الظلم والفواحش والكذب، فليس يقصر عنه، فالعلم الضروري حاصل بأن الرسول أخبر عن الله بذلك، وفرض على الأمة تصديقه فيه، فرضا لا يتم أصل الإيمان إلا به، فرد الجهمية ذلك بالمتشابه من قوله: ليس كمثله شيء {الشورى: 11} ومن قوله: هل تعلم له سميا {مريم: 65} ومن قوله: قل هو الله أحد {الإخلاص: 1}... اهـ.
وقد عقد ـ رحمه الله ـ فصلا في كتاب الصواعق المرسلة لبيان الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب، ومما قال فيه: التشابه والإحكام نوعان: تشابه وإحكام يعم الكتاب كله، وتشابه وإحكام يخص بعضه دون بعض، فالأول كقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً {الزمر23} وقوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ {هود1} وقوله: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ {يس2 ـ 1} والثاني: كقوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ {آل عمران7} فإن اردتم بتشابه آيات الصفات النوع الأول فنعم هي متشابهة غير متناقضة يشبه بعضها بعضا، وكذلك آيات الأحكام، وإن أردتم أنه يشتبه المراد بها بغير المراد فهذا وإن كان يعرض لبعض الناس فهو أمر نسبي إضافي فيكون متشابها بالنسبة إليه دون غيره، ولا فرق في هذا بين آيات الأحكام وآيات الصفات، فإن المراد قد يشتبه فيهما بغيره على بعض الناس دون بعض، وقد تنازع الناس في المحكم والمتشابه تنازعا كثيرا ولم يعرف عن أحد من الصحابة قط أن المتشابهات آيات الصفات، بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك، فكيف تكون آيات الصفات متشابهة عندهم وهم لا يتنازعون في شيء منها، وآيات الأحكام هي المحكمة وقد وقع بينهم النزاع في بعضها؟! وإنما هذا قول بعض المتأخرين، وسيأتي إشباع الكلام في هذا في الفصل المعقود له إن شاء الله تعالى. اهـ.
وقد أشبع القول في ذلك بعد مجلدين، عندما ذكر الطواغيت الأربعة التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن، وذلك أثناء هدمه للطاغوت الأول وهو قولهم: إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين ـ فراجع كلامه بطوله في المجلد الثالث من الكتاب.
وقد تناول شيخ الإسلام ابن تيمية تفصيل هذه المسألة ورد على المخالفين فيها ردا وافيا خلال رسائله وفتاويه، وقد لخص ذلك الدكتور عبد الرحمن المحمود في أطروحته للدكتوراة: موقف ابن تيمية من الأشاعرة ـ ومما قال في ذلك: جاءت مناقشة شيخ الإسلام لمن توهم ذلك من المتكلمين وغيرهم من خلال وجهين:
ـ أحدهما: مناقضة من قال: إن الصفات من المتشابه، وإنه لا يفهم معناه، يقول شيخ الإسلام: نقول: أما الدليل على بطلان ذلك: فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفي أن يعلم أحد معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت ـ ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه، ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك، وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت..... ومن أدلة شيخ الإسلام على أن الصفات ليست من المتشابه الذي لا يعلم معناه قوله بعد إيراد عدد كبير من نصوص الأسماء والصفات: فيقال لمن ادعى هذه أنه متشابه لا يعلم معناه: أتقول هذا في جميع ما سمى الله ووصف به نفسه، أم في البعض؟ فإن قلت: هذا في الجميع كان هذا عنادا ظاهراً وجحداً لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، بل كفر صريح، فإنا نفهم من قوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ـ معنى، ونفهم من قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ـ معنى ليس هو الأول، ونفهم من قوله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ـ معنى، ونفهم من قوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ـ معنى، وصبيان المسلمين، بل كل عاقل فيهم يفهم هذا، ثم رد على من زعم أن أسماء الله أعلام جامدة كبعض من ابتدع من أهل المغرب....
ـ والثاني: أنه لو قيل: إن الصفات من المتشابه، أو فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن الإمام أحمد تسمية ما استدل به الجهمية النفاة متشابها، فيقال: الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله، إما المتشابه، وإما الكتاب كله.. ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه، كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة... ويؤيده أيضا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها وهو ما يحتمل معنيين، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب، كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى، فإن نفي المتشابه بين الله وخلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا، وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى ـ ثم زاده شيخ الإسلام تقريراً وشرحا بشواهد الكتاب والسنة وكلام الصحابة وسائر السلف والأئمة الذين تكلموا في نصوص الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالاتها وبيانها، وحرص عبد الله بن مسعود على تعلم التفسير، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس، وتعلم جميع الصحابة التفسير مع التلاوة، وأقوال الأئمة، كل ذلك أدلة واضحة لمن هداه الله على إثباتهم للصفات التي دلت عليها النصوص، مع نفي العلم بالكيفية.. اهـ.
وراجع في معنى المحكم والمتشابه الفتويين رقم: 63815، ورقم: 55396.
والله أعلم.