عنوان الفتوى : حكم الاتفاق على تأجيل القرض إلى حين الزواج مثلا
هل يجوز أن يتفق الدائن والمدين أن يكون موعد السداد في حال تزوج الدائن ، أو سافر إلی بلد آخر ، أم يجب أن يكون الموعد ثابتا ؟
الحمد لله.
أولا :
هناك فرق بين "القرض" و "الدين" فالدين أعم ، يشمل القرض وغيره ، ولكن الغالب أن الناس يقصدون بـ "الدين" الآن "القرض" .
وبناء على هذا ، فسيكون الجواب خاصا بالقرض حتى لا نضطر إلى كثير من التفصيلات التي لم يقع عنها السؤال .
ثانيا :
اختلف العلماء فيما لو اتفق المقرض والمقترض على تحديد أجل للقرض ، هل يلزم المُقرِض الوفاء بهذا الأجل أم لا يلزمه ؟
والصحيح أنه يجب على المقرِض الوفاء بهذا الشرط ، ولا يجوز له أن يطالب بالقرض قبل حلول الوقت المتفق عليه .
وهذا مذهب المالكية والظاهرية ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهم الله.
قال البهوتي الحنبلي رحمه الله بعد أن ذكر أن مذهب الحنابلة أن الدائن لا يلزمه تأجيل القرض ، قال : "واختار الشيخ [يعني : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله] صحة تأجيله ، ولزومه إلى أجله ، سواء كان الدين قرضا أو غيره ، كثمن مبيع ، وقيمة متلف ، ونحوه ، لعموم حديث (المؤمنون عند شروطهم)" انتهى من " كشاف القناع " (3/316).
وقال الشيخ ابن عليش المالكي رحمه الله :
" إن اقترض إلى أجل سماه : لزم بلا خلاف في المذهب " .
انتهى من " فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك " (1/ 363).
وهذا هو ما اختاره الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه ، واستدل له بالسنة الصحيحة ؛ فإنه قال رحمه الله : "باب . إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، أَوْ أَجَّلَهُ فِي الْبَيْعِ . قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الْقَرْضِ إِلَى أَجَلٍ : لَا بَأْسَ بِهِ ... وَقَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : هُوَ إِلَى أَجَلِهِ فِي الْقَرْضِ . وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَذَكَرَ الْحَدِيثَ" انتهى .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"والصحيح : أنه إذا أجَّله ، ورضي المُقْرِض : فإنه يثبت الأجل ، ويكون لازماً ، ولا يحل للمقرض أن يطالب المستقرض حتى يحل الأجل .
وهو اختيار شيخ الإسلام ؛ لأن هذا لا ينافي مقتضى العقد ، بل هو من تمام مقتضى العقد ؛ لأن المقصود بالقرض الإرفاق والإحسان ، وإذا أجلته صار ذلك من تمام الإحسان ، فالأرفق للمقترض التأجيل .
ومن وجه آخر أن الله تعالى قال : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) [المائدة: 1]، وهذا عقد شرط فيه التأجيل ، فيجب أن يُوفى به ؛ لأن أَمْرَ اللهِ تعالى بالوفاء بالعقود ، يشمل الوفاء بأصلها والوفاء بوصفها ، وهو الشروط التي تشترط فيها ؛ وقال الله تعالى : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) [الإسراء: 34] ، والمقرض الذي أجله قد تعهد ألا يطالب إلا بعد انتهاء الأجل ، فيكون هذا العهد مسؤولاً عنه عند الله .
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )، فعلم من ذلك أن الشرط الذي لا ينافي كتاب الله فليس بباطل ...
ولأن المطالبة به وهو مؤجل إخلاف للوعد ، وإخلاف الوعد من سمات المنافقين ...
ولأنه ربما يكون في ذلك ضرر عظيم على المستقرض .
مثلاً : هذا الرجل أقرضني خمسين ألفاً لشراء سيارة أنتفع بها، فاشتريت السيارة على أن القرض مؤجل إلى سنة ؟
فعلى كلام المؤلف لصاحب القرض أن يطالبني الآن ، ويقول : أوفني ، ويلزمني بأن أبيع السيارة ، وأوفيه ، وفي ذلك ضرر عظيم ... ويستقبحه العقل والعرف والمروءة ، فضلاً عن الشرع .
إذاً دلالة الكتاب والسنة والمعنى : كلها متفقة على أن التأجيل في القرض جائز ، وأنه ملزِم ولا بد منه " انتهى باختصار من " الشرح الممتع على زاد المستقنع " (9/ 99-101).
وينظر " المحلى " (7/438) ، " جامع المسائل – المجموعة الثامنة " (ص/315) ، " إغاثة اللهفان " (2/15) .
ثالثا :
أما اشتراط أن يكون أجل القرض مجهولا ، كما في السؤال ، إلى أن يتزوج الدائن ، أو يسافر ، فمذهب المالكية هنا أيضا : أنه جائز .
ولا شك أن عقود التبرعات ، كالهبة والقرض ، يتسامح فيها ما لا يتسامح في غيرها ، لأن القصد فيها الإرفاق ، والقرض إلى مثل هذا الأجل المذكور ، إلى أن يعود من السفر ، أو يتزوج ، أو نحو ذلك : هو من تمام الإرفاق ، وحاجة الناس داعية إليه ، وعملهم عليه كثير .
قال النفراوي رحمه الله ، في بيان "استثناء القرض" من شروط البيع ، مع أن البيع أصل له :
" الْقَرْضَ الَّذِي هُوَ السَّلَفُ : فَرْعٌ ، وَالْبَيْعَ أَصْلُهُ .. ؛ وَوَجْهُ اسْتِثْنَاءِ الْقَرْضِ مِنْ الْبَيْعِ : أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَالْقَرْضُ كَذَلِكَ، لَكِنْ أَخْرَجُوا الْقَرْضَ مِنْ الْبَيْعِ ، حَيْثُ أَجَازُوا فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ إقْرَاضُ الْمَجْهُولِ ، كَمِلْءِ غِرَارَةٍ بِمِثْلِهَا ، مع عَدَمُ مَعْرِفَةِ مَا فِيهَا ، وَالدُّخُولُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجُزَافَ الْمَدْخُولَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَيَجُوزُ فِيهِ جَهْلُ الْأَجَلِ ؛ بِخِلَافِ الْبَيْعِ" انتهى من "الفواكه الدواني" (2/89) .
وفي حاشية العدوي : "وَيَجُوزُ إقْرَاضُ الْمَجْهُولِ ، كَمِلْءِ غِرَارَةٍ بِمِثْلِهَا مع عَدَمِ مَعْرِفَةِ ما فيها ، وَجَهْلِ الْأَجَلِ" انتهى، من "حاشية العدوي على كفاية الطالب" (2/163) .
وينظر: "تهذيب المدونة" (3/276) ، والذخيرة (9/221) ، و"مواهب الجليل" (5/101) .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |