عنوان الفتوى : يدعي أن لديه شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعزم على بناء مسجد ، ويحفظها فيه !
أنا من مدينة كيرلا في جنوب الهند ، وقد ادّعى أحد وجهاء المنطقة من المسلمين هنا أن لديه شعرة من شعر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وأنه سيبني مسجداً ويحفظها فيه ، وهذا بدوره أثار كثيراً من الجدل في أوساط المتدينين خصوصاً فيما يتعلق بمسألة التبرُك ، فأتمنى التفصيل في المسألة على ضوء الكتاب والسنة ؟
الحمد لله
أولا :
التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم كان معمولاً به في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم مثل ماء وضوئه ، وثوبه وطعامه وشرابه وشعره وكل شيء منه .
أما التبرك بما مس جسده عليه الصلاة والسلام من وضوء أو عرق أو شعر أو نحو ذلك ،
فهذا أمر معروف وجائز عند الصحابة رضي الله عنهم ، وأتباعهم بإحسان لما في ذلك من
الخير والبركة ، وهذا أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
جاء في "الموسوعة الفقهية" (10/ 70):
" اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبَرُّكِ بِآثَارِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَوْرَدَ عُلَمَاءُ السِّيرَةِ
وَالشَّمَائِل وَالْحَدِيثِ أَخْبَارًا كَثِيرَةً تُمَثِّل تَبَرُّكَ الصَّحَابَةِ
الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنْوَاعٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ آثَارِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " انتهى .
راجع جواب السؤال رقم : (10045) .
ثانيا :
هذا التبرك لا يجوز بغير آثار النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز قياس غيره عليه
، فالتبرك بآثار غيره من الصالحين بدعة منكرة ، وهو وسيلة إلى الشرك .
قال ابن عثيمين رحمه الله :
" كان الصحابة يتبركون بعرق النبي صلى الله عليه وسلم ويتبركون بريقه ويتبركون
بثيابه ويتبركون بشعره ، أما غيره صلى الله عليه وسلم فإنه لا يتبرك بشيء من هذا
منه ، فلا يتبرك بثياب الإنسان ولا بشعره ولا بأظفاره ولا بشيء من متعلقاته إلا
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (4/ 243) .
ثالثا :
لا يثبت وجود شيء من آثار النبي صلى الله عليه وسلم الآن ، ومن ادعى وجود شيء من
ذلك فلا دليل معه عليه ، وعلى ذلك : فلا يجوز لأحد أن يدعي أن بحوزته شيئا من آثار
النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدليل قاطع ، وأنى له ؟
قال العلامة المؤرخ : أحمد باشا تيمور :
" فما صح من الشعرات التي تداولها الناس بعد ذلك ، فإنما وصل إليهم مما قسم بين
الأصحاب رضي الله عنهم ، غير أن الصعوبة في معرفة صحيحها من زائفها " .
انتهى من "الآثار النبوية" ، أحمد باشا تيمور(91) .
وقال العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه
الله :
" هذا ولابد من الإشارة إلى أننا نؤمن بجواز التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم ،
ولا ننكره خلافاً لما يوهمه صنيع خصومنا .
ولكن لهذا التبرك شروطاً منها الإيمان الشرعي المقبول عند الله ، فمن لم يكن مسلماً
صادق الإسلام فلن يحقق الله له أي خير بتبركه هذا ، كما يشترط للراغب في التبرك أن
يكون حاصلاً على أثر من آثاره صلى الله عليه وسلم ويستعمله .
ونحن نعلم أن آثاره صلى الله عليه وسلم من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت ، وليس
بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين ، وإذا كان الأمر كذلك فإن
التبرك بهذه الآثار يصبح أمراً غير ذي موضوع في زماننا هذا ويكون أمراً نظرياً
محضاً، فلا ينبغي إطالة القول فيه " . انتهى من "التوسل أنواعه وأحكامه " (144) .
وينظر للفائدة : كتاب "التبرك أنواعه وأحكامه" ، د. ناصر الجديع (256-260) .
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
ما حكم التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد موته كشعر رأسه ونحوه ؟
فأجاب :
" الجواب على هذا: أنه لا يمكن إثبات أن هذا من شعر الرسول عليه الصلاة والسلام
أبداً، وما ذكر من أنه في مصر في مجمع الآثار : هذا لا صحة له ، ولا يوجد .
ولا عرف أن الصحابة رضي الله عنهم يهتمون بهذا الأمر ، إلا ما ورد عن أم سلمة رضي
الله عنها أنها كانت عندها شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جلجل
من فضة ، إذا مرض أحد أتى إليها وصبت عليه الماء ورجت الماء ثم شربه .
وعلى هذا: فلا يمكن أن يثبت هذا : أن هذا من شعر الرسول عليه الصلاة والسلام.
وأهم شيء آثاره المعنوية ، الآثار الشرعية ، أما الآثار الحسية فهي آثار ، والقلب
يحن إليها ويحبها ويألفها، لكن المهم الآثار الشرعية " .
انتهى من "دروس للشيخ العثيمين" (2/ 64) بترقيم الشاملة .
وانظر جواب السؤال رقم : (91969) ، (100105)
، (204831) .
ومن أراد البركة حقا في أمر دينه ودنياه فعليه باتباع
النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا ، والاهتداء بهديه ، والانتهاء عما نهى عنه
من الأقوال والأفعال والاعتقادات ، ففي ذلك كل الخير والبركة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرَكَتِهِ لَمَّا آمَنُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ، فَبِبَرَكَةِ
ذَلِكَ حَصَلَ لَهُمْ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، بَلْ كُلُّ مُؤْمِنٍ
آمَنَ بِالرَّسُولِ وَأَطَاعَهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ بَرَكَةِ الرَّسُولِ بِسَبَبِ
إيمَانِهِ وَطَاعَتِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، مَا لَا يَعْلَمُهُ
إلَّا اللَّهُ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (11/ 113) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله :
" النبي صلى الله عليه وسلم وإن أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك
بآثاره والتمسح بها، وذلك لغرض مهم ، وخاصة في تلك المناسبة ، وذلك الغرض هو إرهاب
كفار قريش وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم ، وحبهم له ، وتفانيهم في خدمته وتعظيم
شأنه ، إلا أن الذي لا يجوز التغافل عنه ولا كتمانه أن النبي صلى الله عليه وسلم
بعد تلك الغزوة رغّب المسلمين بأسلوب حكيم وطريقة لطيفة عن هذا التبرك ، وصرفهم عنه
، وأرشدهم إلى أعمال صالحة خير لهم منه عند الله عز وجل ، وأجدى ، وهذا ما يدل عليه
الحديث الآتي:
عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ يوماً،
فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملكم على
هذا؟ قالوا: حب الله ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن يحب الله
ورسوله ، أو يحبه الله ورسوله، فليصدق حديثه إذا حدث ، وليؤد أمانته إذا اؤتمن،
وليحسن جوار من جاوره ) وهو حديث ثابت له طرق وشواهد في معجمي الطبراني وغيرهما " .
انتهى من "التوسل" (ص 145) .
والحاصل : أن ادعاء هذا الرجل أن لديه شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ادعاء قائم على غير برهان ، وإنما هي مجرد دعوى ، لا يجوز لأحد أن يأخذ بها أو يصدقه بما يقول فيها . لا سيما وأمر كهذا ، لو كان صحيحا : لم يكن ليخفى ، بل كانت تتوافر الهمم والدواعي على نقله ، وإثبات سنده ، واشتهار أمره .
رابعا :
عزمه على بناء مسجد ، ووضع هذه الشعرة فيه ، عزم فاسد مردود ؛ وهو فيه إنما يتبع
سنن أهل الكتاب ، وينحرف به عن صراط الله المستقيم .
وبلاء القوم في الغلو ، الذي يسوغ لهم مثل هذا ، ويسلك بهم سبيل البدع والضلالة.
روى البخاري (427) ، ومسلم (528) عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ : " أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ ، وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ( إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) .
فإذا كان هؤلاء شرار الخلق عند الله يوم القيامة ، لأجل ذلك العمل ، وقد تحققوا من جسد النبي الذي يجعلون قبره مسجدا ، فكيف بمن يلبس الشيطان عليه ، بأمر لا يعلم صحته ، ولا يدر له إسناد تقوم به حجة في دين الله ، ثم يعمل به عملا مردودا ، لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ، بل نهاهم عن مثله ، وحذرهم من سبيله .
وأين كان الصحابة والتابعون عن هذا الفضل العظيم ؟! لماذا لم يحافظوا على آثار النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتواصوا فيما بينهم بحفظها ، ويجعلوا بعضها في المساجد ؟!