عنوان الفتوى : هل الإحسان إلى أهل المعاصي بالمال والطعام ينافي قوله عليه الصلاة والسلام : ( لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ) ؟
ورد في الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ) فكيف يكون فقه هذا الحديث باعتبار حالتي التالية : في بعض الأحيان يكون هناك بعض المسلمين الذي يتعاملون بالمحرمات مثل شرب الخمر أو الزنا وما إلى ذلك من معاصي ، فهل يجوز أن أعطيهم المال أو الطعام أو المأوى في حال كانوا بحاجة إلى ذلك ، وفي نفس الوقت أقوم بدعوتهم ومحاولة إصلاحهم ؟ وإن كان الجواب أنه يجوز فإلى متى يمكنني الاستمرار في مساعدتهم ؟
الحمد لله
قوله عليه الصلاة والسلام : ( لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا ، وَلَا يَأْكُلْ
طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ ) المقصود منه : المصاحبة والمخالطة والمؤاكلة المجردة
التي لا يقصد من ورائها مصلحة شرعية ، أو لم تقتضها حاجة ؛ لما في مصاحبة أهل
المعاصي والفسق ، من أثر على دين العبد وخلقه ، وكما يقال : الصاحب ساحب ، إما إلى
خير أو إلى شر ، وفي الحديث الذي رواه البخاري (5534) ، ومسلم (2628) قال عليه
الصلاة والسلام : ( مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ ، كَحَامِلِ
الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ : إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ ،
وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً ،
وَنَافِخُ الْكِيرِ : إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ
رِيحًا خَبِيثَةً ) .
لكن إذا قصد المسلم بمخالطة أهل المعاصي ودعوتهم إلى طعامه ، أن يتألف قلوبهم
ويستميلهم إليه ؛ لأجل دعوتهم ونصحهم ، فلا حرج في ذلك .
وكذلك الحال في الإحسان إلى أهل المعاصي بالمال والطعام والمسكن ؛ بقصد دفع
حاجتهم ، فهذا لا حرج فيه أيضاً ، ويؤجر عليه الشخص ، بل إن المسلم يجوز له أن يحسن
إلى غير المسلم ، كما سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم : (129664) ، وجواب السؤال
رقم : (3854) ، فإحسانه إلى أخيه المسلم ، ولو كان من أهل المعاصي من باب أولى .
قال الخطابي رحمه الله – معلقاً على الحديث - : " هذا إنما جاء في طعام الدعوة
دون طعام الحاجة ؛ وذلك أن الله سبحانه قال : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً
ويتيماً وأسيراً ) [الإنسان : 8] ، ومعلوم أن أسراهم كانوا كفاراً غير مؤمنين ولا
أتقياء .
وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي ، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته ؛ فإن المطاعمة توقع
الألفة والمودة في القلوب " انتهى من " معالم السنن " (4/115) .
وقال المناوي رحمه الله :
" ( ولا يأكل طعامك إلا تقي ) لأن المطاعمة توجب الألفة ، وتؤدي إلى الخلطة ، بل هي
أوثق عرى المداخلة ، ومخالطة غير التقي تخل بالدين ، وتوقع في الشبه والمحظورات ،
فكأنه ينهى عن مخالطة الفجار ؛ إذ لا تخلو عن فساد : إما بمتابعة في فعل ، أو
مسامحة في إغضاء عن منكر ، فإن سلم من ذلك ، ولا يكاد ، فلا تخطئه فتنة الغير به ،
وليس المراد حرمان غير التقي من الإحسان ؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم أطعم
المشركين ، وأعطى المؤلفة المئين بل يطعمه ولا يخالطه " انتهى من " فيض القدير "
(6/404) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
" ليس الأكل مع الكافر حراما ، إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، أو المصلحة الشرعية , لكن
لا تتخذهم أصحابا ، فتأكل معهم من غير سبب شرعي أو مصلحة شرعية ، ولا تؤانسهم ,
وتضحك معهم , ولكن إذا دعت إلى ذلك حاجة ، كالأكل مع الضيف ، أو ليدعوهم إلى الله ،
ويرشدهم إلى الحق ، أو لأسباب أخرى شرعية ، فلا بأس .
وإباحة طعام أهل الكتاب لنا ، لا تقتضي اتخاذهم أصحابا وجلساء ، ولا تقتضي مشاركتهم
في الأكل والشرب من دون حاجة ولا مصلحة شرعية " انتهى من " مجموع فتاوى ابن باز "
(9/329) .
وقال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله :
" وقوله : ( ولا يأكل طعامك إلا تقي ) أي : صاحبٌ تقى ، والمقصود من ذلك : أن
الإنسان لا يدعو إلا أناساً طيبين ، ولا يدعو أناساً ليسوا أتقياء ، إلا إذا كان
يريد من وراء ذلك استمالتهم وتوجيههم ، ودعوتهم وإصلاحهم ونصحهم ، فإذا كان ذلك
لهذه المصلحة ، فلا بأس في ذلك ، وإلا فإن الأصل أن الإنسان تكون مجالسته ومخالطته
ومؤاكلته مع أناس طيبين ، وأما إذا كان يخالط أناساً فيهم سوء ، ولا يكترث بذلك فإن
ذلك يؤثر عليه ، ولكن إذا كان من أجل أن يدعوهم ، وينبههم ، ويستميلهم ، ويذكرهم ،
ويسعى لإصلاحهم ، فهذا مقصد طيب .
وقوله : ( لا يأكل طعامك إلا تقي ) : المقصود بذلك أن يدعوه ، وأما أن يحسن الإنسان
إلى غيره ، ممن هو بحاجة إلى الإحسان ، فإنه يحسن إلى التقي وغير التقي ، لاسيما
إذا كان هذا الإحسان يؤثر في غير التقي " انتهى من " شرح سنن أبي داود " لـلشيخ عبد
المحسن العباد .
والإحسان إلى الآخرين ومساعدتهم ، ليس له زمن ولا وقت محدد ، فهو مستمر وباقٍ ببقاء حاجة الفقير والمحتاج إلى من يساعده .
وإما إلى متى تحسن إلى مثل هؤلاء ؛ فيختلف الأمر ، فإن كان الإحسان لأجل الحاجة
، فبقدر ما تندفع حاجته .
وأما الإحسان بغرض استصلاحه ، وتألف قلبه ، ودعوته ، فبقدر ما يغلب على الظن حصول
المصلحة الشرعية من ذلك ، أو الإياس منه ، وعدم استجابته ، أو رغبته في إصلاح نفسه
، وتزكيتها .
على أن ينبغي أن ينتبه هنا : إلى أنه لا يعطى ولا يملك من المال ، ما يستعين به
على معصيته ، إما بإنفاق أموال الصدقات في معاصيه ، إن كان يُعطَى مالا ، أو حتى
بأن يوفر ماله هو لإنفاقه في المعاصي ، اعتمادا على أن حاجته ، من طعام وكساء ونحو
ذلك ، تأتيه من المساعدات والصدقات ، كما قد يصنع كثير منهم .
والله أعلم .