عنوان الفتوى : مسألة دعوة غير المسلمين وقتال من لم يسلم ومآل ملوكهم إن أسلموا
أود أن أسأل فضيلتكم عن كيفية الدعوة إلى الإسلام والفتح, فعندما أرسل رسول الله إلى كسرى ليدعوه وقومه إلى الإسلام، أكان على كسرى أن يدخل هو ويدخل جميع قومه الإسلام، ويصبحوا تحت السيادة السياسية والقانونية لدولة المسلمين, ويدخل هو ويدخل جميع قومه الإسلام، ويستطيع أن يبقى على ملكه بشرط أن يؤدوا أحكام الإسلام أعيانًا وقومًا - من الفرائض, والحدود, وغير ذلك - ويدخل هو الإسلام ويدع الدعاة يدخلوا بلاده بأمان، فيدخل من شاء من قومه الإسلام فقط، ويستطيع أن يبقى على ملكه بشرط أن يؤدوا الأحكام أعيانًا وقومًا - من الفرائض والحدود وغير ذلك - أرجو أن تكونوا قد أدركتم مقصدي, وأن الاحتمالات كثيرة، وأنا أريد أن أعلم إذا خُيّر قوم بين الإسلام أو القتال - الجزية على أهل الكتاب فقط، أليس كذلك؟ - فماذا عليهم إذا اختاروا الإسلام؟ ومما قد يساعدني في فهم الموضوع - يا أصحاب الفضيلة - هو فهم التوافق بين الآية الكريمة: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ" (البقرة: 256) والحديث الشريف: أخبرنا ابن جريج قال: قال لي عطاء: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله، أحرزوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" وجزاكم الله خيرًا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كيفية الدعوة تكون بخطاب الناس وبيان التوحيد لهم بالحكمة والأسلوب الحسن المناسب، إذ الحكمة وضع الشيء في موضعه، وقد أمر الله باستعمال الحكمة فقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ{النحل:125}, وقد كان الأنبياء يسعون في إقناع الناس بتوحيد الله تعالى, فيذكرونهم بنعم الله, ويخوفونهم من أيام الله وعقوبته.
والواجب على كل من دعي للإسلام - ملكًا أو غيره - أن يستجيب للإسلام, ويعمل بجميع الأوامر الربانية, ويدخل في الدين كافة من باب الخضوع لله, والدخول تحت طاعة الله وحكمه الذي شرعه لعباده، وإلا فإنه سيخلد في النار, كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ {البينة:6}.
وأما إن أسلم الملك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك الأمراء سادة على البلد التي كانوا سادة به, وقد جاء في الكتاب الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملكي عمان - كما جاء في زاد المعاد وغيره من كتب السيرة -:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما, فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيًّا, ويحق القول على الكافرين, فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما, وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل, وخيلي تحل بساحتكما, وتظهر نبوتي على ملككما. اهـ
ولو أن الملك لم يسلم ومنع دعاة الاسلام من الوصول لعامة الناس فيشرع قتاله ليفسح المجال للدعوة, ويترك للناس حريتهم .
وأما عن التوفيق بين الآية الكريمة والحديث الشريف فإن قوله سبحانه: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {البقرة:256}, لا يدل على عدم قتال الكفار, وإنما يدل على عدم الإكراه؛ لأن الدين واضح الحجة والبرهان, فلا يحتاج العاقل عندما يسمع الدعوة إليه لأن يُكرَه عليه, أو لأن الإكراه القلبي لا يستطيعه أحد من البشر, ومن أكره ودخل في الدين ظاهرًا فلا ينفعه ذلك.
وأما قتال الكفار حتى يخضعوا لحكم الله، ويفسحوا الطريق لدعوة التوحيد التي يحتاجها البشر عامة لتتحقق لهم سعادة الدارين, فهو أمر ثابت في القرآن العظيم في آيات كثيرة، وفي الحديث المذكور وغيره كما قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {الأنفال:39}، وقال سبحانه : قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ {التوبة:29}، وقال تعالى :وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {التوبة:36}.
وقد اختلف العلماء في معنى الآية، لكن لم يقل أحد من أهل العلماء: إن الآية تدل على ترك قتال الكفار، وقد حكى القرطبي اختلاف العلماء حول معنى الآية ونحن ننقله لك للفائدة، فقد قال - رحمه الله -: اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال:
(الأول) قيل : إنها منسوخة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم, ولم يرض منهم إلا بالإسلام، قاله سليمان بن موسى، قال: نسختها: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين". وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.
(الثاني) ليست بمنسوخة, وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين" وهذا قول الشعبي, وقتادة, والحسن, والضحاك, والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي - أيتها العجوز - تسلمي، إن الله بعث محمدًا بالحق, قالت: أنا عجوز كبيرة, والموت إليّ قريب! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا: " لا إكراه في الدين".
(الثالث) ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مقلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار, فقالوا: لا ندع أبناءنا, فأنزل الله تعالى: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" قال أبو داود: والمقلات التي لا يعيش لها ولد, في رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت: " لا إكراه في الدين" من شاء التحق بهم, ومن شاء دخل في الإسلام, وهذا قول سعيد ابن جبير, والشعبي, ومجاهد إلا أنه قال: كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع, قال النحاس: قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي.
(الرابع) قال السدي: نزلت الآية في رجل من الأنصار, يقال له: أبو حصين كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الخروج أتاهم ابنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا, ومضيا معهم إلى الشام، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيًا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما فنزلت: " لا إكراه في الدين" ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: " أبعدهما الله هما أول من كفر" فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما, فأنزل الله جل ثناؤه: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " الآية ثم إنه نسخ: " لا إكراه في الدين" فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة.
وقيل: معناها: لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبرًا مكرهًا، وهو القول الخامس.
وقول سادس، وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كبارًا ، وإن كانوا مجوسًا صغارًا أو كبارًا أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام؛ لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين، ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم, ولا توطأ نساؤهم، ويدينون بأكل الميتة والنجاسات وغيرهما، ويستقذرهم المالك لهم, ويتعذر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار .اهـ. بتصرف.
وراجع للفائدة الفتوى رقم: 170755, والفتوى رقم: 112625.
والله أعلم.