عنوان الفتوى : هل يجب على الفتاة أن تتزوج إذا تقدم لها الرجل المناسب ؟
أنا فتاة في العشرينات من عمري ، تقدم لي أكثر من رجل حسن الدين والخلق ، ولكني أرفض الزواج ؛ والسبب عدم رغبتي في الزواج أبداً ، لأنني أظن أنني سأكره العيش مع أي رجل ، وأشعر بالراحة والهدوء مع الوحدة ، بل عندما أفكر كثيراً في الزواج ، اكتئب ، وأحزن ، وتأتيني أفكار الانتحار و- العياذ بالله - ، أهلي يقلقون علي بسبب مرور مرور الوقت ، وكبر سني ، ويخشون أن تضيع هذه الفرص ، وأبقى وحيدة ، خوفاً من الفقر ، ومن ألسنة الناس ، رغم أني لا يقلقني هذا ، أهلي يذكرون الأحاديث التي تدل على سنة الزواج ، مثلاً: ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ) ، ( من استطاع منكم الباءة فليتزوج ) ، ( النكاح سنتي ومن رغب عن سنتي فليس مني ) . سؤالي : هل يدل قول النبي صلى الله عليه وسلم على أنني يجب أن أقبل عرض الزواج من رجل حسن الخلق ، أم يسمح لي أن أرفض ؟
الحمد لله
إننا نرى أنك ـ أيتها السائلة الكريمة ـ تبالغين جدا في رهبتك من ذلك الأمر القادم
؛ نعم ، الرهبة من الغائب والمجهول ، هي أمر طبيعي ؛ لكن حينما يبقى في حجمه
الطبيعي أيضا ؛ وأما ما تذكرينه فهو أمر مبالغ فيه جدا ؛ فأنت ـ يا أمة الله ـ
امرأة من الناس ، وزوجك القادم : رجل من الرجال ، وما زال الناس يعيشون ويتعاشرون
على أمر الدنيا ، دون أن يصل بهم الحال إلى ما تذكرين .
ربما يكون لخوفك رواسب قديمة ، من خلال معايشات سابقة ، أو صورة رسخت في ذاكرتك ،
أو قصص تسمعينها ، وظننت أن كل زواج لا بد أن يكون كذلك .
وهو ظن خاطئ ، يكفي في بيان خطئه : ما عليه عامة الناس من العيش ، والتعايش الطبيعي
، بحسب الممكن والمتاح من أمر الناس في الدنيا .
ثم : لنفترض أن خوفك له ما يبرره ، وأن فشل هذه التجربة ، لا قدر الله ، ممكن ، أو
متوقع ؛ فاعلمي ـ يا أمة الله ـ أن الزواج في الإسلام ، ليس حكما بالمؤبد بين
الزوجين ، كما هو عند النصارى مثلا ؛ بل قد جعل الله عز وجل للزوجين فرجا ومخرجا ،
متى استحالت العشرة بينهما ، أو لم يتمكن أي منهما من عشرة صاحبه بالمعروف ؛ فشرع
الله للزوج الطلاق عند ذلك ، وشرع للمرأة أن تطلب من زوجها أن يطلقها ، أو تختلع
منه ، إذا لم تطق أمر العيش معه ، أو تعذر عليها أن تقيم حدود الله مع زوجها .
والحاصل :
أننا لا نوافقك بالمرة على هذه الرهبة ، ونقول لك : الأمر إن شاء الله أيسر مما
تظنين ؛ ثم لا مانع ، بل نحن ننصحك أن تعرضي حالتك على طبيب نفسي ، موثوق في علمه
ودينه ، فلعل عنده من الإرشادات ما يناسب حالة " الرهاب " التي تعيشينها من أمر
الزواج .
وأما عن قبول الزواج من رجل حسن الدين والخلق : فنعم ، قد رغب الشرع في ذلك ، كما
تعلمين ، وهذه نعمة من الله ، فاحذري أن تكفريها ، ثم إذا فات الأوان ، ومضى وقتها
، لا قدر الله عليك ذلك ، يكون الندم ، ساعة لا ينفع الندم ، واسألي من فاتهم وقت
الزواج ، ومضى بهم قطار العمر ، كيف يكون حالهم من الوحشة ، والوحدة ، والألم ؟!
ربما لا تشعرين الآن بذلك ، فأنت ما زلت في وقت الشباب ، تعيشين مع أسرتك ، لا
تعانين من ألم الوحدة والوحشة ؛ لكن مع تقدم العمر : سوف يختلف الأمر كل الاختلاف .
وفي زمن كهذا الذي نعيش فيه ، مليء بالفتن ، والشهوات ، والشبهات ، ينبغي أن يحرص
العاقل على تحصين نفسه من الفتن والشهوات ، ويسعى في تحصين فرجه بالزواج ، وإعفاف
نفسه
وأما وجوب الزواج فقد ذهب بعض العلماء إلى أن المسلم إذا كان يخشى على نفسه الفتنة
أنه يجب عليه أن يتزوج ، رجلا كان أو امرأة ، فإن لم يتزوج أثم بتعريض نفسه للفتنة
، فإن كان لا يخشى الفتنة فالزواج سنة مؤكدة في حقه وليس واجبا ، وذهب آخرون إلى
وجوب الزواج على كل مستطيع إذا كان ذا شهوة ، وأن المرأة إذا أتاها زوج مناسب وجب
عليها قبوله ، وذلك امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الشباب أن يتزوجوا ،
وللمصالح العظيمة التي تترتب على النكاح .
وقد رجح وجوب النكاح على كل مستطيع الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كما في " الشرح
الممتع " (12/8) وهو ما أفتى به الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله . فإنه سئل : هل
على المرأة من إثم إذا بقيت بلا زواج ؟ " .
فأجاب :
" إن الله سبحانه شرع لعباده الزواج للذكور والإناث ، قال سبحانه : ( وَأَنْكِحُوا
الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) ... وقال النبي عليه
الصلاة والسلام: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر
وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) ، وهذا يعم الجميع ، يعم
الرجال والنساء ،
فالواجب على الرجل والمرأة ، هو الزواج ، إذا تيسر ذلك واستطاع ذلك ، لما في الزواج
من المصالح العظيمة ، من عفة الفرج ، وغض البصر، وتكثير الأمة ، كما قال النبي عليه
الصلاة والسلام: ( تزوجوا الولود الودود ، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) ؛
فالنبي صلى الله عليه وسلم يكاثر الأمم بأمته عليه الصلاة والسلام ، فتكثير الأمة
في عبادة الله وطاعته أمر مطلوب ، فالرجل يجب عليه أن يسعى في ذلك ، ويبذل وسعه حتى
يتزوج .
وقد اختلف العلماء رحمة الله عليهم في الوجوب :
فقال قوم من أهل العلم : إنه يشرع ولا يجب ، إلا إذا خاف على نفسه الفاحشة ، فإن
خاف على نفسه وجب عليه الزواج، وإلاَّ فلا .
والصواب أنه يجب عليه ؛ إذا كان ذا شهوة ، فإنه يجب عليه الزواج إذا استطاع ذلك ؛
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة
فليتزوج ) ، ولم يقل: إن خاف على نفسه ، بل قال : ( فليتزوج ) وأطلق ، وهذا أمر ،
والأمر أصله للوجوب ، ما لم يرد ما يدل على صرفه عنه .
والمرأة كذلك ، إذا كانت ذات شهوة ، وترغب في النكاح ، فإن عليها أن تتزوج ، إذا
تيسر لها الزوج ؛ لما في ذلك من التسبب في إحصان الفرج ، وغض البصر ، والبعد عن
أسباب الهلكة ، ولأنها من جنس الرجل في المعنى ؛ فكما يجب على الرجل أن يحصن فرجه ،
ويسعى لغض بصره ، فهي كذلك . والله يقول سبحانه: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ ) ؛ فإذا تيسر لها الزواج ، وهي ترغب في النكاح كسائر النساء ،
فالواجب عليها أن تتزوج ، وتأثم إذا تركت ذلك .
أما إذا لم يتيسر ذلك ، ولم يحصل لها الزواج فلا حرج عليها ؛ لأن الله سبحانه قال:
( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا
وُسْعَهَا).
ولكن متى استطاعت ، ولو ببذل شيء من مالها، ولو بمهر قليل ، إذا خطبها الكفء، فإن
الواجب عليها وعلى أوليائها أن يساعدوها في الزواج ، ولا يعطلوها .
فالمقصود أن التزوج فيه مصالح جمة للرجل والمرأة ، وعلى الرجل أن يسعى في التماس
المرأة الصالحة ، التي تعفه ويحصل بها المطلوب : لجمالها ودينها.
والمرأة كذلك، عليها أن تسعى في ذلك بما تستطيع من الطرق الحسنة ، وألا ترد كفئًا
إذا خطب ، وعلى أوليائها ألا يردوا الكفء ، لما في ذلك من المصلحة العظيمة ، فينبغي
لكل منهما العناية بهذا الأمر ، والحرص عليه بالطرق الحكيمة ، والطرق السليمة
الشرعية التي تسبب حصول الزواج من دون وقوعٍ في محارم ، ومن تعرضٍ لما يغضب الله
سبحانه وتعالى ، رزق الله الجميع التوفيق والهداية ، ولا يجوز ترك الزواج مع القدرة
" انتهى باختصار من " فتاوى نور على الدرب لابن باز " ، بعناية الشويعر (20/50) وما
بعدها .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (82968) ، ورقم : (34652) ، ورقم : (6254) .
وعلى كل حال ، فالزواج في حقك إما سنة مؤكدة وإما واجب ، فلا ينبغي لك أن تتركيه
متى تقدم لك الشاب المناسب .
ومتى كان عندك مانع نفسي ، أو جسدي ، فاجتهدي في علاجه ، ودفعه عنك ؛ فلكل داء دواء
، حتى أدواء النفوس .
يسر الله لك أمرك ، وجمع عليك شملك ، ورزقك الهدى والتقى ، والعفاف والغنى .
والله أعلم .