عنوان الفتوى : وجود الخالق ووجود المخلوق.. وجوه الفروق والتشابه
لا شك أن الله عز وجل ليس كمثله شيء في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، فلا يصحُّ أبدًا أن يُقال إن شيئًا من الأشياء مثل الله، أو مثل صفة من صفاته، فلو قيل إن وجود الله مثل وجود غيره لكان هذا القول باطلًا، لا شك في بطلانه، لكن ما حكم أن يُقال: هذا الشيء موجود كما أن الله موجود؟ لا داعِي لقول مثل هذا القول في حد ذاته، لكن قد يقال كلامٌ يشبه هذا القول، فهل هذا تشبيه أو تمثيل؟ أم ليس كذلك؟ وهل يكون المراد أن وجود الله حق ووجود هذا الشيء حق، دون التمثيل بينهما؟ أم أن معنى الكلام أن وجود الله كوجود غيره؟ وما حكم أن يقول رجل إن كلامًا من الكلام يُشبه آية من الآيات في المعنى؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعبارة الأولى صحتها مبنية على إثبات الفرق بين التمثيل والتشبيه، وهذا حق، فإن الاشتراك في أصل بعض الصفات أمر واقع غير مستنكر، ولا يستلزم المساواة والتكافؤ، وقد أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان هذا الفرق والتأصيل لهذه المسألة، وقد أجاد الدكتور عبد الرحمن المحمود في رسالته للدكتوراة: موقف ابن تيمية من الأشاعرة في عرض كلام شيخ الإسلام من خلال كتبه، خاصة كتاب الجواب الصحيح، وكتاب نقض التأسيس، فقال: تأصيل القول في مسألة الفرق بين التشبيه والتمثيل ومدلولهما عند الإطلاق، يقول شيخ الإسلام: وقف تنازع الناس هل لفظ الشبه والمثل بمعنى واحد، أو معنيين؟ على قولين:
ـ أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقا ومقيدا يدل عليه لفظ الشبه، وهذا قول طائفة من النظار.
والثاني: أن معناهما مختلف عند الاطلاق لغة وشرعا وعقلا، وإن كان مع التقييد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر، وهذا قول أكثر الناس.
وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية وهي: أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه؟ وللناس في ذلك قولان، فمن منع أن يشبه من وجه دون وجه قال: المثل والشبه واحد، ومن قال: إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه، فرق بينهما عند الإطلاق.
وقد رجح شيخ الإسلام الثاني بقوله: وهذا قول جمهور الناس، فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان، تشتبه في كونها ألوانا مع أن السواد ليس مثل البياض، وكذلك الأجسام والجواهر عند جمهور العقلاء تشتبه في مسمى الجسم والجوهر، وإن كانت حقائقها ليست متماثلة، فليست حقيقة الماء مماثلة لحقيقة التراب، ولا حقيقة النبات مماثلة لحقيقة الحيوان، ولا حقيقة النار ممائلة لحقيقة الماء، وإن اشتركا في أن كلا منهما جوهر وجسم وقائم بنفسه، وأيضا فمعلوم في اللغة أنه يقال: هذا يشبه هذا، وفيه شبه من هذا، إذا أشبهه من بعض الوجوه، وإن كان مخالفا له في الحقيقة، قال الله تعالى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا {البقرة: 25} وقوله: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ {آل عمران: 7} وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ {البقرة: 118} فوصف القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل، فإن القلوب وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس ـ فدل على أنه يعلمها بعض الناس، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة، بل بعضها حرام، وبعضها حلال، وهذا الذي رجحه شيخ الإسلام من أن هناك فرقا بين التشبيه والتمثيل، وأنه يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه كثيرا ما يقرره في كتبه، ويذكر له بعض الأدلة، ويذكر أن لفظ التماثل أخص من لفظ التشابه، وذلك في معرض رده على الرازي حول تعريف المتشابه، ويرى أن سبب اضطراب أهل الكلام في مسألة الصفات ما يثبت منها وما ينفي، مرجعه إلى أنهم جعلوا مسمى التشبيه والتمثيل واحدا... اهـ.
ويمكن مراجعة بقية الكلام هناك لتمام الفائدة، فإنه يزيد على عشر صفحات، وفيها نقل شيء من محنة خلق القرآن، وأنه لما قرئ على علماء بغداد كتاب المأمون الذي دعا الناس فيه إلى التجهم، فيه: لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه، أقر بذلك من أقر به، وأما الإمام أحمد فقال: لا أقول: لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه ـ وهذا يبين كمال علمه ومعرفته بالأقوال المنافية لدين الإسلام، واحترازه فيها، مع أن كثيرا من الناس يطلق هذه العبارة، ويريد بذلك نفي المماثلة ومقصوده صحيح، وقد يريد ما يجمع الحق والباطل، أو يريد تنزيها مطلقا لا يحصل معناه. اهـ.
ومما قاله الدكتور المحمود في التعليق على تقرير شيخ الإسلام لذلك، قوله: فالأخذ بظاهر هذه العبارة ـ أنه واحد في صفاته لا شبيه له ـ يؤدي إلى نفي جميع الصفات والأسماء عن الله تعالى، لأن ما من موجودين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مميز، وأقرب مثال على ذلك: الوجود، فالله موجود والمخلوق موجود، والوجود له معنى مشترك يصدق على وجود الله ووجود المخلوق، وإن كان وجود المخلوق ليس كوجود الله، لأن المخلوق ممكن، حادث، قابل للعدم، فهل يمكن القول بأن الله موجود بدون فهم معنى الوجود؟ إلا أن يقال بأننا خوطبنا بألغاز لها معاني أخر لا نفهمها، ولم يدل عليها الخطاب!! اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين: نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح، لأن ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقًا، لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما، مثلًا: الوجود، يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك ونوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين وجود الخالق واجب, ووجود المخلوق ممكن, وكذلك السمع فيه اشتراك، الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن أصل وجود السمع المشترك, فإذا قلنا: من غير تشبيه, ونفينا مطلق التشبيه، صار في هذا إشكال. اهـ.
وراجع الفتويين رقم: 198743، ورقم: 187789.
وكذلك عبارة: إن كلامًا من الكلام يُشبه آية من الآيات في المعنى ـ عبارة صحيحة، لأنها مقيدة بالمعنى، وتشابه المعاني أمر واقع لا شك فيه، ويكفيك من ذلك أن تتذكر ما يعرف بموافقات عمر للقرآن، وراجع الفتوى رقم: 62984.
وقد ذكر غير واحد من المؤرخين ـ كالذهبي وابن كثير والمزي وابن حجر ـ في ترجمة الحسن البصري، عن الأعمش قال: ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها، وكان إذا ذكر الحسن عند أبي جعفر الباقر قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء. اهـ.
وهذا التشبيه لا يراد به قطعا التسوية والتكافؤ بينه وبينهم عليهم صلوات الله وسلامه.
والله أعلم.