عنوان الفتوى : قول عمر عن سعد بن عبادة - رضي الله عنهما - : قتله الله !!
هذه الإدعاءات التاريخية في سيرة الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- أثارت استغرابي ، فأرجو مساعدتكم لي في فهمها ، هل صحيح بأن عمر دعا على سعد بن عبادة بقتله في يوم السقيفة ، واغتاله فيما بعد في الشام -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- ؟
الحمد لله
أولا :
روى البخاري (6830) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ... فذكر
الحديث في مبايعة الصحابة أبا بكر رضي الله عنه ، وفيه : " .. فَقَالَ قَائِلٌ
مِنْهُمْ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَقُلْتُ - يعني عمر - : قَتَلَ
اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، قَالَ عُمَرُ: وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا
فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِينَا
إِنْ فَارَقْنَا القَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ: أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلًا
مِنْهُمْ بَعْدَنَا، فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لاَ نَرْضَى، وَإِمَّا
نُخَالِفُهُمْ فَيَكُونُ فَسَادٌ " .
ورواه ابن حبان (414) وفيه : قَالَ عُمَرُ: " فَقُلْتُ وَأَنَا مُغْضَبٌ : قَتَلَ
اللَّهُ سَعْدًا فَإِنَّهُ صَاحِبُ فِتْنَةٍ وَشَرٍّ ، وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا
رَأَيْنَا فِيمَا حَضَرَ مِنْ أَمْرِنَا أَمْرٌ أَقْوَى مِنْ بَيْعَةِ أَبِي
بَكْرٍ، فَخَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بَيْعَةٌ أَنْ
يُحْدِثُوا بَعْدَنَا بَيْعَةً، فَإِمَّا أَنْ نُبَايِعَهُمْ عَلَى مَا لَا
نَرْضَى، وَإِمَّا أَنْ نُخَالِفَهُمْ فَيَكُونُ فَسَادًا " .
وعند الطبري في "تاريخه" (3/ 222):
" فقال أبو بكر: مهلا يا عمر! الرفق هاهنا أبلغ " انتهى.
ثانيا :
للعلماء في توجيه هذا الكلام من عمر - رضي الله عنه - قولان :
الأول : أن هذا الكلام على وجه "الخبر" من عمر رضي الله عنه ، عن حال سعد بن عبادة
رضي الله عنه ، وما آل إليه أمره ؛ فإنه لما كان قد طلب الإمارة لنفسه ، ولم يدركها
، وفاته أمرها ، كان كأنه قد قتل لمَّا يدرك حاجته ، ولم تشتف نفسه ، ولم يعتد
بقوله وطلبه .
قال ابن الجوزي رحمه الله :
" وَقَوله: قتل الله سَعْدا: إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن سَعْدا أَرَادَ الْولَايَة
، وَمَا كَانَ يصلح أَن يتَقَدَّم أَبَا بكر.
وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى قَوْله: قتل الله سَعْدا: أَي احسبوه فِي عداد من مَاتَ
وَهلك، أَي لَا تَعْتَدوا بِحُضُورِهِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَن يكون أَمِيرا،
فَخَالف " انتهى من : "كشف المشكل" (1/71) .
وقال الخطابي رحمه الله :
" معنى قوله: (قتل الله سعدًا) : أي اجعلوه كمن قتل، واحسبوه في عدد من مات، ولا
تعتدوا بمشهده، وذلك أن سعدًا أراد في ذلك المقام أن ينصب أميرًا على قومه، على
مذهب العرب في الجاهلية ألا يسود القبيلة إلا رجلا منها، وكان حكم الإسلام خلاف
ذلك، فرأى عمر إبطاله بأغلظ ما يكون من القول وأشنعه، وكل شيء أبطلت فعله وسلبت
قوته فقد قتلته وأمته، وكذلك قتلت الشراب إذا مزجته لتكسر شدته." انتهى، نقله ابن
بطال في "شرح البخاري" (8/465-466) .
القول الثاني : أنه دعاء من عمر عليه ، قاله في غضبه من أمر سعد ، وتقدمه على أبي بكر ، وهو أفضل وأجل منه ، وخوفه من الفتنة ووقوع الفرقة بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الحافظ ابن حجر رحمه
الله :
" قَوْلُهُ : فَقَالَ قَائِلٌ : قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ . أَيْ :
كِدْتُمْ تَقْتُلُونَهُ .
وَقِيلَ : هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ وَالْخِذْلَانِ .
وَيَرُدُّهُ : مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، عَنْ ابن شِهَابٍ ،
فَقَالَ : قَائِلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَبْقُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ، لَا
تَطَئُوهُ !! فَقَالَ عُمَرُ : اقْتُلُوهُ قَتَلَهُ اللَّهُ !!
نَعَمْ ؛ لَمْ يُرِدْ عُمَرُ الْأَمْرَ بِقَتْلِهِ حَقِيقَةً .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : قَتَلَهُ اللَّهُ ؛ فَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ .
وَعَلَى الْأَوَّلِ : هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ إِهْمَالِهِ ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ"
انتهى من "فتح الباري" (7/32) .
وقال العيني - رحمه الله - :
" قَوْله: قتلتم سعد بن عبَادَة قيل: مَا مَعْنَاهُ وَهُوَ كَانَ حَيا؟ وَأجِيب:
بِأَن هَذَا كِنَايَة عَن الْإِعْرَاض والخذلان والاحتساب فِي عدد الْقَتْلَى،
لِأَن من أبطل فعله وسلب قوته فَهُوَ كالمقتول. قَوْله: فَقلت: قتل الله سعد بن
عبَادَة. الْقَائِل هُوَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَوجه قَوْله هَذَا
إِمَّا إِخْبَار عَمَّا قدر الله عَن إهماله وَعدم صَيْرُورَته خَليفَة، وَإِمَّا
دُعَاء صدر عَنهُ عَلَيْهِ فِي مُقَابلَة عدم نصرته للحق " انتهى من "عمدة القاري"
(24/ 12) . وينظر أيضا : "عمدة القاري" (16/ 186) .
ثانيا :
القول بأن عمر قتل سعدا بعد ذلك : قول باطل لا أساس له من الصحة ، ولم يقله أحد من
أهل العلم والديانة ، والمعرفة بالتواريخ وأخبار الناس .
والمشهور أن سعدا - رضي الله عنه - مات بمغتسله بالشام ، وقيل: قتلته الجن ، ولا علاقة لعمر بموته .
قال ابن سعد في "الطبقات
الكبرى" (7/ 274):
" أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي
عَرُوبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يُحَدِّثُ : أَنَّ سَعْدَ بْنَ
عُبَادَةَ بَالَ قَائِمًا ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لأَصْحَابِهِ: إِنِّي لأَجِدُ
دَبِيبًا ، فَمَاتَ ، فَسَمِعُوا الْجِنَّ تَقُولُ:
قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجِ سَعْدَ بن عبادة
رميناه بسهمين فلم نخط فؤاده " انتهى .
وقال الأَصْمَعِيُّ: " حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بنُ بِلاَلٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءَ قَالَ: قُتِلَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ بِالشَّامِ ، رَمَتْهُ الجِنُّ بِحوْرَانَ." انتهى من "سير أعلام النبلاء" (3/ 171) .
وقال ابن الأثير رحمه الله :
" ولم يختلفوا أَنَّهُ وجد ميتًا عَلَى مغتسله، وقد اخضر جسده، ولم يشعروا بموته
بالمدينة حتى سمعوا قائلًا يقول من بئر، ولا يرون أحدًا:
قتلنا سيد الخزرج سعد بْن عبادة
رميناه بسهمين فلم نخط فؤاده
فلما سمع الغلمان ذلك ذعروا، فحفظ ذلك اليوم ، فوجوده اليوم الذي مات فيه سعد
بالشام " انتهى من "أسد الغابة" (2/ 441) .
وينظر : "الاستيعاب" (2/ 599) ، "تاريخ دمشق" (20/ 268) .
وانظر للفائدة جواب السؤال
رقم : (7871) ، (127028)
.
والله تعالى أعلم .