عنوان الفتوى : الجواب عن شبهة كون الإنسان لم يختر القدوم للدنيا فكيف يعاقب؟
من الاستفسارات الملحة التي ترد في خاطري وأواجه بها بعض معارفي من غير المسلمين: كيف نقول إن الإنسان مخير وهو أصلًا لم يختر المشاركة في هذه الحياة والعمل للجنة وتجنب النار؟ ونحن نعلم يقينًا أن الله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من أمهاتهم فنحن ـ تعالى الله عن التشبيه ـ يصعب علينا، بل يستحيل أن نتصور أن نقوم مثلًا بإلزام أولادنا بالاشتراك في مسابقة من تصميمنا ونعدهم بجوائز لا حصر لها إذا نجحوا، ولكن في المقابل إذا فشلوا فليس لهم سوى العذاب القاسي، وليس لهم الخيار في رفض المشاركة, فمن منا يستطيع أن يتخيل ذلك؟ فكيف يكون ذلك لرب العزة سبحانه وتعالى؟
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلا خلاف بين العقلاء أن مالك الشيء له أن يفعل به ما يشاء ما دام يملكه, والله تعالى خالق الخلق ومالكهم: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء:23}.
خلقهم للعبادة وهو غني عنهم؛ لأنه سبحانه يستحق أن يُعبد, فلا يقال له: لم خلقت الخلق لعبادتك ولم تستشرهم؟ لأن هذا السؤال فيه تعدٍّ على حق الله تعالى في التصرف في ملكه كيفما يشاء، والمثال الذي ضربته مثلًا لحال الخالق سبحانه مع خلقه لا يستقيم؛ لأن الوالد الذي يجبر أولاده على المشاركة في المسابقة لا يملك أن يهب أولاده أسباب الفوز من الذكاء والفطنة والقدرة، لأن هذه بيد خالقهم، وهو أيضا ليس مالكًا لهم يتصرف فيهم كيف يشاء، فإذا عذبهم الأب على عدم النجاح كان ظالمًا لهم, ولكن الله تعالى لما خلق الخلق لعبادته مكّنهم من النجاح, والفوز فأرسل إليهم الرسل, وأنزل عليهم الكتب, وبين لهم الطريق الموصلة للجنة والموصلة إلى النار, بمعنى أنه أعطاهم الإجابة الصحيحة التي يتمكنون بها من الفوز وما عليهم إلا العمل، وأخبر أنه لا يعذبهم قبل ذلك: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا {الإسراء:15}.
فإذا رسبوا بعد هذا كله فإنهم يستحقون العذاب, وبهذا يتبين لك عدم المساواة بين فعل الله تعالى بعباده وبين فعل ذلك الأب بأولاده، وقد قال الله تعالى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النحل:74}.
قال ابن العربي: يَعْنِي لَا تَضْرِبُوا أَنْتُمْ الْأَمْثَالَ لِلَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَيُرِيدُ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا تَقُولُونَ وَمَا تُرِيدُونَ. اهــ.
وكون الإنسان غير مخير في قدومه لهذه الدنيا لا يعني أنه غير مخير في أفعاله فيها، فلا تلازم بين الأمرين, بل مكّنه الله تعالى من فعل الخير والشر، وبين له طريقهما: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ {البلد:10}.
ورغّبه في طريق الخير وحذّره من طريق الشر, وعلم الله تعالى الطريق الذي سيسلكه الإنسان, وكتبه عنده في اللوح المحفوظ, ورتب عليه جزاءه في الآخرة, فقولك: إنه غير مخير في العمل للجنة والنار هو قول يحتاج شيئًا من التفصيل، وراجع الفتوى رقم: 36591، بعنوان: معنى الجبر والاختيار وما أحالت عليه من فتاوى.
ومن المهم أيضًا أن تعلم أن الله تعالى لا يظلم الناس شيئًا، كما قال عز وجل، إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا {النساء:40}.
فإذا أيقنت بهذا فلا تُتعب نفسك وقلبك في البحث عن أمور لا يدركها عقلك, والواجب عليك فيها التسليم، فأشغل نفسك بما خلقت له ولا تشغلها بغير ذلك.
والله أعلم.