عنوان الفتوى : الحكمة من تفاوت الخلق في أرزاقهم
ما ذنب الشخص في العيش في مجتمع، أو بيئة مليئة بالفساد، وبسخط الله من غلاء المعيشة، وكثرة الفتن والفساد؟ وكل هذه علامات على سخط الله، كما قال نبينا، فلماذا يعاقبنا الله بذنوب غيرنا؟ وما ذنبنا نحن في هذا كي نعيش في هذا الواقع المؤلم؟ أنا شخص ما زلت في 21 من العمر، وتعبت من الدنيا؛ نظرًا لسواد المستقبل الذي ينتظرني من بطالة، وغلاء معيشة، وتكاليف زواج، وكل هذه هي أدني احتياجات وحقوق الشخص. تعبت، وأصبحت أتمنى الموت، وأرى أنه خير لي من هذه الدنيا، التي لا أكسب فيها سوى الذنوب، والهموم -كل يوم-؛ رغم أني أتوب، وأستغفر باستمرار؛ لكن كل هذه الأشياء أحبطتني جدًّا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يوفقك، وأن يملأ قلبك رضى به سبحانه.
واعلم أن مثل هذه الخواطر إنما هي وحي من الشيطان، يعذب بها قلب ابن آدم، وهي ثمرة نكدة للضعف الإيماني، وفتور علاقة العبد مع الله سبحانه، فمثل هذه الخلجات الفاسدة هي إلى علاج إيماني أحوج، منها إلى محاججة ومجادلة، وسَوق للبراهين والأدلة!
وعلى كل حال؛ فإن الجواب الأوحد الشافي في مثل هذه القضية المتعلقة بقضاء الله وقدره: هو التسليم، والإذعان بأن قضاء الله سبحانه دائر بين العدل والفضل، وأنه سبحانه لا يظلم أحدًا من خلقه مثقال ذرة، وأن الله جل وعلا حكيم، لا يقضي إلا ما له فيه أتم الحكمة، وله عليه أتم الحمد، لكن العباد لا يحيطون بحكمته جل وعلا فيما يخلق ويقدر، فإن القدر: سر الله الذي لم يحط به علمًا سواه، والله سبحانه لا يسأله أحد من الخلق عما فعل سبحانه، قال تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء:23}.
واعلم أن سنة الله في خلقه أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وليست هي دار الجزاء والحساب:
فربّ كافر فاجر وسع عليه، وأنعم عليه؛ استدراجًا له، ومكرًا به؛ ليزداد حسابه وعذابه في الآخرة.
وربّ مؤمن ضُيق عليه في الدنيا، وحيل بينه وبين بهجتها؛ كرامة من الله؛ ليكون ذلك تكفيرًا لسيئاته، وسببًا لأنواع من العبودية من التوكل، والرضى، والتعلق بالله، وادخارًا من الله لثوابه؛ ليناله كاملًا في دار الآخرة.
وكذلك حال الأمم والجماعات: فرُبّ بلد مع كفرهم وفجورهم هم في رغد ونعيم؛ استدراجًا، ومكرًا، وتعجيلًا لحسناتهم في الدنيا.
ورُبّ أهل بلد أحسن دينًا وإيمانًا، لكنهم مع ذلك يضيق عليه العيش؛ ابتلاء وامتحانًا، جزاء لهم ببعض سيئاتهم؛ تكفيرًا لها، وتذكيرًا لهم؛ ليتوبوا، ويرجعوا إلى ربهم.
وواعجبًا لعاقل يقول لربه: ما ذنبي!
فما أعظم جهل هذه القائل بحق ربه، وبنفسه، وتقصيرها في جنب الله، فإنه لا يوفي أحد من الخلق -حتى الأنبياء- القيام بحق الله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته، فلن يدخل أحد الجنة بعمله، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة الله لها: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة}...
ولهذا من ظنّ أنه قام بما يجب عليه، وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى، وعفوه، فهو ضال، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت -يا رسول الله-؟ قال ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه، وفضل} وروي: {بمغفرته}.
ومن هذا أيضًا: الحديث الذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله لو عذب أهل سماواته، وأهل أرضه؛ لعذبهم وهو غير ظالم لهم. ولو رحمهم؛ لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم} الحديث. انتهـى باختصار من رسالته المسماة: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة.
وقال: فهذا من بيان عدل الرب، وإحسانه، وتقصير الخلق عن واجب حقه؛ حتى الملائكة، والأنبياء، وغيرهم، وأنه لو عذبهم لم يكن ظالمًا لهم، فكيف بمن دونهم؟ اهـ.
ولو كنت تتوب إلى الله، وتستغفره صادقًا لما استقرت مثل هذه الخواطر الخبيثة في فؤادك.
واعلم أنه ما جزع أحد لضيق الدنيا إلا لنسيانه الآخرة، وفراغ قلبه من ذكراها، وإلا فمن جعل الآخرة نصب عينيه إلا هانت عليه الدنيا وما فيها، وعاش فيها بجسده فقط، وقلبه وروحه معلقة بالآخرة.
وفي الختام: فإن العبد لو تأمل فيما أغدق الله عليه من صنوف النعم التي لا تعد، ولا تحصى؛ لما تجرأ أن يعترض على قضاء الله، ولكن العبد إذا استقلّ نعم الله عليه وازدراها، فحين ذلك تفتح عليه أبواب السخط، والاعتراض على القدر، والتي لا يجني منها سوى عذاب القلب، وألمه.
وقد أشبعنا الكلام عن الحكمة من تفاوت الخلق في أرزاقهم، وذكرنا ما يعين المسلم على الرضى بما قسمه الله له، فراجع ذلك كله في الفتاوى التالية أرقامها: 105462، 341872، 334846، 17831.
والله أعلم.