عنوان الفتوى : عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن أبي سرح ليس فيه إسقاط حد الردة

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

ما صحة ذاك الحديث الذي ورد في " سنن أبي داود " أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الحد عن رجل ارتد عن الإسلام . وإذا كان صحيحاً ولم يُنسَخ ، فكيف يُطبق اليوم في ظلِّ التشريع الإسلامي ؟

مدة قراءة الإجابة : 15 دقائق

الحمد لله.


لعل الحديث المقصود في السؤال ما رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ ، اخْتَبَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، فَجَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ . فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا ، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى . فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : ( أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ ، فَيَقْتُلُهُ ؟ فَقَالُوا : مَا نَدْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ ، أَلا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ ؟ قَالَ : إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ ) رواه أبو داود (4359) بإسناد صحيح ، وصححه ابن تيمية في " الصارم المسلول " (2/219) ، وابن الملقن في " البدر المنير " (7/450) ، وابن حجر في " التلخيص الحبير " (3/1136) ، والألباني في " السلسلة الصحيحة " (4/ 301) .

فإن كان هذا الحديث هو المقصود ، فليس فيه دلالة على عدم قتل المرتد ، فقد استحق عبد الله بن سعد بن أبي سرح القتل من جهتين :
الأولى : من جهة أنه ارتد عن الإسلام ، وحار إلى الكفر بعد الهداية .
والقتل لهذا السبب حق لله تعالى ، يسقط بتوبة المرتد ورجوعه إلى الإسلام .

الثانية : أنه كان يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويفتري عليه الكذب بقوله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبدل في القرآن بحسب ما يملي عليه ابن أبي سرح . كما روى ذلك ابن إسحاق في " السير والمغازي " عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم : إنما أمر بابن أبي سرح لأنه كان قد أسلم ، فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ، فرجع مشركا ، ولحق بمكة ، فكان يقول لهم : إني لأصرفه كيف شئت ، إنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له : أو كذا أو كذا . فيقول : نعم . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : ( عليم حليم ) فيقول له : أو أكتب : ( عزيز حكيم ) فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلاهما سواء " انتهى نقلا عن " الصارم المسلول " (ص/111) .

وقال ابن إسحاق أيضا :
" حدثني بعض علمائنا أن ابن أبي سرح رجع إلى قريش ، فقال : والله لو أشاء لقلت كما يقول محمد ، وجئت بمثل ما يأتي به ، إنه ليقول الشيء وأصرفه إلى شيء ، فيقول : أصبت . ففيه أنزل الله تعالى : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ) فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله .
وعن ابن أبي نجيح قال : إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان أسلم ، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ، فارتد مشركا راجعا إلى قريش ، فقال : والله إني لأصرفه حيث أريد ، إنه ليملي علي فأقول : أو كذا أو كذا . فيقول : نعم . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يملي عليه فيقول : ( عزيز حكيم ) أو ( حكيم حليم ) فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول : كل صواب " انتهى نقلا عن " الصارم المسلول " (ص/112) .
والقتل لهذا السبب حق للنبي عليه الصلاة والسلام ، يسقط بعفوه وصفحه .

فغاية ما وقع في هذه الحادثة :
أن السبب الأول سقط بتوبة عبد الله بن أبي سرح ، ورجوعه إلى الإسلام ، بل وحسُن إسلامه عقب ذلك ، والتائب من الردة لا يقام عليه الحد ، في أصح قولَيْ العلماء .
وأما السبب الثاني فقد سقط بموجب عفو النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد شفاعة عثمان بن عفان رضي الله عنه .

والدليل على توبة ابن أبي سرح أمور :
أولا :
خطاب عثمان بن عفان رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية بقوله : ( بايع عبد الله ) ، وعلى أي شيء تكون المبايعة إلا على الإسلام والحق والخير !!
ثانيا :
روايات أخرى صريحة بذكر التوبة ، منها ما جاء في " المغازي " (2/ 855) للواقدي قوله : " وخرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا ، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح ، فلما كان يومئذ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وكان أخاه من الرضاعة ، فقال : يا أخي ، إني والله اخترتك فاحتبِسني هاهنا ، واذهب إلى محمد فكلِّمه في ، فإن محمدا إن رآني ضرب الذي فيه عيناي ، إن جرمي أعظم الجرم ، وقد جئت تائبا "
ثالثا :
أقوال العلماء الذين ترجموا لعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، كلهم أجمعوا على أنه أسلم في ذلك اليوم ، وحسن إسلامه بعد ذلك .
حتى روى البغوي في " معجم الصحابة " (4/24، 250) بإسناده إلى يزيد بن أبي حبيب قال : لما حضرت عبد الله بن سعد بن أبي سرح الوفاة ، وهو بالرملة ، وكان خرج إليها فارا من الفتنة ، فجعل يقول لهم من الليل : أصبحتم ؟ فيقولون : لا . فلما كان عند الصبح قال : إني لأجد برد الصبح ، فانظروا . ثم قال : اللهم اجعل خاتمة عملي صلاة الصبح ، فتوضأ ثم صلى ، فقرأ في أول ركعة بأم القرآن والعاديات ، وفي الآخرة بأم القرآن وسورة ، فسلم عن يمينه ، وذهب يسلم عن يساره فقبض الله عز وجل روحه .

وقال ابن عبد البر رحمه الله :
" أسلم عبد الله بن سعد بن أبي السرح أيام الفتح ، فحسن إسلامه ، فلم يظهر منه شيء ينكر عليه بعد ذلك " انتهى من " الاستيعاب في معرفة الأصحاب " (3/ 918) .

وقال النووي رحمه الله :
" ثم أسلم ذلك اليوم عبد الله بن سعد بن أبى سرح ، وحَسن إسلامه ، ولم يظهر منه بعده ما يُنكر ، وهو أحد العقلاء والكرماء من قريش ، ثم ولاه عثمان مصر سنة خمس وعشرين ، ففتح الله على يديه إفريقية ، وكان فتحًا عظيمًا بلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف مثقالٍ ذهبًا ، وشهد معه هذا الفتح عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن الزبير ، وكان عبد الله بن سعد هذا فارس بني عامر بن لؤى ، وغزا بعدَ إفريقية الأساودَ من أرض النوبة ، سنة إحدى وثلاثين ، وغزا غزوة الصواري في البحر إلى الروم .
وحين قُتل عثمان بن عفان اعتزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح الفتنة ، فأقام بعسقلان ، وقيل : بالرملة ، وكان دعا بأن يختم عمره بالصلاة ، فسلَّم من صلاة الصبح التسليمة الأولى ، ثم همَّ بالتسليمة الثانية عن يساره ، فتوفى سنة ست وثلاثين " انتهى من " تهذيب الأسماء واللغات " (1/ 270) .

وقد كان أحد السببين كافيا لقتل عبد الله بن أبي سرح :
فلو ارتد ولم يَفْتَرِ على النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك موجبا للقتل ، ولكن التوبة تدرء هذا الحدّ .
ولو سبّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وافترى عليه : كان أيضا ذلك موجبا للقتل ، ولا يسقط الحد في هذه الحالة إلا بعفو خاص من صاحب الحق عليه الصلاة والسلام . فلما عفا سقط عنه الحد ، أي حد إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والافتراء عليه وعلى الوحي ، وليس حد رجوعه عن الإسلام إلى عبادة الأوثان ، فهذا تَكفِي لإسقاطه التوبةُ .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" عبد الله بن سعد بن أبي سرح : كان قد ارتد وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يلقنه الوحي ، ويكتب له ما يريد ، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه ، ونذر رجل من المسلمين ليقتلنه ، ثم حبسه عثمان أياما حتى اطمأن أهل مكة ، ثم جاء تائبا ليبايع النبي عليه الصلاة والسلام ويؤمنه ، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا رجاء أن يقوم إليه الناذر أو غيره فيقتله ويوفي بنذره .
ففي هذا دلالة على أن المفتري على النبي صلى الله عليه وسلم ، الطاعن عليه : قد كان له أن يقتله ، وأن دمه مباح ، وإن جاء تائبا من كفره وفريته ؛ لأن قتله لو كان حراما لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، ولا قال للرجل : هلا وفيت بنذرك بقتله .
ولا خلاف بين المسلمين علمناه أن الكافر إذا جاء تائبا مريدا للإسلام ، مظهرا لذلك ، لم يجز قتله لذلك . ولا فرق في ذلك بين الأصلي والمرتد...
بل لو جاء الكافر طالبا لأن يعرض عليه الإسلام ، ويقرأ عليه القرآن ، لوجب أمانه لذلك . قال الله تعالى : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) ، وقال تعالى في المشركين : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) .
وعبد الله بن سعد إنما جاء تائبا ملتزما لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، بل جاء بعد أن أسلم .
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه كان مريدا لقتله ، وقال للقوم : ( هلا قام بعضكم إليه ليقتله ) و ( هلا وفيت بنذرك في قتله ) ، فعلم أنه قد كان جائزا له أن يقتل من يفتري عليه ، ويؤذيه من الكفار ، وإن جاء مظهرا للإسلام والتوبة بعد القدرة عليه .
وفي ذلك دلالة ظاهرة على أن الافتراء عليه وأذاه : يُجَوِّز له قتل فاعله ، وإن أظهر الإسلام والتوبة " انتهى من " الصارم المسلول " (408-409) .

وقال – أيضا - رحمه الله :
" عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما طعن عليه ، وافترى افتراء عابه به ، بعد أن أسلم : أهدر دمه ، وامتنع عن مبايعته ، وقد تقدم تقرير الدلالة منه على أن الساب يقتل وإن أسلم ، وذكرنا أنه كان قد جاءه مسلما تائبا ، قد أسلم قبل أن يجيء إليه ، كما رويناه عن غير واحد . أو قد جاء يريد الإسلام ، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد جاء يريد الإسلام ، ثم كف عنه انتظار أن يقوم إليه رجل فيقتله .
وهذا نص في أن مثل هذا المرتد الطاعن : لا يجب قبول توبته ، بل يجوز قتله وإن جاء تائبا ، وقد قررنا هذا فيما مضى وهنا من وجوه أخرى ؛ أن الذي عصمَ دمَه : عفوُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ، لا مجردُ إسلامه ، وأن بالإسلام والتوبة : انمحى الإثمُ ، وبعفو رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتقن الدمُ ، والعفو بطل بموته صلى الله عليه وسلم ، وليس للأمة أن يعفوا عن حقه . وامتناعه من بيعته حتى يقوم إليه بعض القوم فيقتله : نص في جواز قتله ، وإن جاء تائبا " انتهى من " الصارم المسلول على شاتم الرسول " (ص/340) .

ولمزيد توسع في قضية حد المرتد ، يمكنكم الرجوع إلى الفتاوى الآتية : (12406) ، (14231)، (20060) ، (20327) ، (142522) .

والخلاصة : أنه لم يسقط في هذا الحديث حد الردة عن الإسلام إلى الكفر ، وإنما سقط حد الافتراء على النبي عليه الصلاة والسلام ، وفرق بين الأمرين .

والله أعلم .