عنوان الفتوى : هل تطبيق عقوبة المرتد خاص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم؟
استمعت لعالم قال إن عقوبة القتل للردة كانت مقتصرة على زمان النبي صلى الله عليه وسلم فقط ، وأنها لا تطبق على من ارتد في زماننا هذا . وقال إنها طبقت على اليهود الذين قالوا ندخل الإسلام ثم نتركه لنضعفه. فما قولكم في هذا؟
الحمد لله.
عقوبة قتل المرتد ثابتة بالنصوص الصريحة الصحيحة التي لا مجال لإنكارها ، وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال (14231) .
إلا أن كثيراً من المنهزمين فكرياً من أبناء هذه الأمة يحاولون التنصل من هذا الحكم الشرعي الصريح ، وإيجاد المبررات التي قد تبدو منطقية ومقبولة لدى الغرب .
ومن ذلك زعم بعضهم : أن قتل المرتد إنما شُرع رداً على سياسة اليهود الذين أرادوا زعزعة هذا الدين والتشكيك فيه عن طريق الدخول في الإسلام ثم الخروج منه ، مما يورث شبهة وشكاً عند أتباعه ، وليس هو حكماً عاماً يشمل كل من خرج من دين الإسلام .
وعضدوا قولهم هذا بما أخبر الله عنه من سياسة اليهود : (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) آل عمران/72 .
وهذا القول باطل ، لا نعلم أحداً قاله من علماء الإسلام وفقهائه المعتبرين ، وليس في النصوص الشرعية ما يؤيده أو يدل عليه .
وليس في الآية المذكورة دليل على أن عقوبة المرتد (وهي القتل) كان بسبب هؤلاء اليهود ، ولا أنها خاصة بهم أو بزمن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقصارى ما في الآية الإخبار عن مكيدة يهودية أرادوا بها أن يلبسوا على الضعفاء من الناس ، بأن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلوا مع المسلمين ، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ، ليقول الناس : إنما رَدّهم إلى دينهم اطّلاعهُم على نقيصة وعيب في دين المسلمين. ينظر : "تفسير ابن كثير" (2/59) .
وليس في هذه الآية ولا غيرها من النصوص الشرعية ما يدل أو يشير إلى أن مشروعية قتل المرتد كان بسبب هذه المؤامرة ، فضلا ًعلى أن تكون خاصة بهم .
ومن الأدلة على بطلان هذا القول :
أولا : عموم قوله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) رواه البخاري (2794) .
و"مَنْ" اسم شرط ، ومن المقرر عند علماء الأصول أن اسم الشرط يفيد العموم ، فهذا الحكم عام في كل من ارتد عن دين الإسلام في كل زمان ومكان ، ومن رام تخصيصه في زمن معين فيلزمه الدليل الشرعي الواضح على هذا التخصيص .
ثانياً : جريان عمل الأمة الإسلامية على تطبيق "عقوبة الردة" من بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم في العصور كافةً من غير نكير من أحد من أهل العلم .
فقاتل أبو بكر المرتدين عن دين الإسلام ، وتبعه الصحابة على ذلك ولم يخالفه منهم أحد .
وأمر عمر بن الخطاب بقتل جماعة من المرتدين كما رواه عبد الرزاق في " المصنف" (10/168) عن عبد الله بن عتبة قال : أخذ ابن مسعود قوماً ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق ، فكتب فيهم إلى عمر .
فكتب إليه : (أن اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله ، فإن قبلوها فخل عنهم ، وإن لم يقبلوها فاقتلهم) .
فقبلها بعضهم فتركه ، ولم يقبلها بعضهم فقتله .
وكذلك قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه جماعة من المرتدين ، وأقره على قتلهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري (6922) .
وفي " المصنف" لعبد الرزاق (10/170) عن أبي عمرو الشيباني : أن المستورد العجلي تنصر بعد إسلامه ، فبعث به عتبة بن فرقد إلى علي ، فاستتابه فلم يتب ، فقتله .
وقتل أبو موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما يهودياً أسلم ثم ارتد .
ففي البخاري (7157) ومسلم (1824) عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ ، فَأَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى ، فَقَالَ : مَا لِهَذَا؟
قَالَ: أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ .
قَالَ معاذ : لَا أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وحوادث قتل المرتين وشواهده في التاريخ كثيرة جداً ، لا يمكن حصرها .
ثالثاً : لم يقل أحد من علماء الإسلام في تاريخ هذه الأمة على مدار أربعة عشر قرناً أن "عقوبة المرتد " خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف يخفى الحق في هذه المسألة الهامة على علماء الأمة على مدار هذه الأزمان حتى يأتي في هذا الزمن من يبينه لهم !!.
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى : " وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ , وَعَلِيٍّ , وَمُعَاذٍ , وَأَبِي مُوسَى , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَخَالِدٍ , وَغَيْرِهِمْ , وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ , فَكَانَ إجْمَاعًا ". انتهى " المغني" (9/16) .
والردة ليست مجرد موقف عقلي ، بل هي تغيير للولاء ، وتبديل للهوية ، وتحويل للانتماء ، فالمرتد ينقل ولاءه ، وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى ، فهو يخلع نفسه من أمة الإسلام التي كان عضواً في جسدها ، وينضم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها .
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ) ، رواه البخاري (6878) ، ومسلم (1676) .
فكلمة (المفارق للجماعة) وصف كاشف ؛ لأن كل مرتد عن دينه هو مفارق للجماعة .
وإن التهاون في عقوبة المرتد يعرض المجتمع كله للخطر ، ويفتح عليه باب فتنة لا يعلم عواقبها إلا الله سبحانه وتعالى ، فلا يلبث المرتد أن يغرر بغيره ، وخصوصاً الضعفاء والبسطاء من الناس .
وللوقوف على حكمة قتل المرتد ينظر جواب السؤال (12406) ، (20327).