عنوان الفتوى : هل كانت توجد زمنَ النبي صلى الله عليه وسلم نسخٌ من التوراة غير محرفة ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

هناك حديث عن عبد الله بن عمر يقول فيه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع نسخة من التوراة على وسادة احتراماً لها . فهل يعني ذلك أن هذه النسخة لم تحرف ؟ أم لأنها تحوي كلام الله رغم بعض التغييرات التي طرأت عليها ؟

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق


الحمد لله
أولا :
أخبرنا الله عز وجل في كتابه أن أهل الكتاب حرفوا التوراة والإنجيل ، وبدلوا كلام الله ، فقال تعالى : ( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) البقرة/ 75 ، وقال تعالى : ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ) النساء/ 46 .
قال السعدي رحمه الله :
" إما بتغيير اللفظ أو المعنى ، أو هما جميعا " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 181) .
غير أن هذا التحريف ليس شاملاً لكل ما جاء في كتبهم ، فلم تزل كتبهم متضمنة لأشياء من الحق .
انظر جواب السؤال رقم : (145665) .

ثانيا :
لا يوجد ما يمنع من القول بأنه كانت توجد نسخ صحيحة من كتب أهل الكتاب لم يطلها التبديل والتحريف ، وبقيت إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" قِيلَ : لَيْسَ فِي الْعَالِمِ نُسْخَةٌ بِنَفْسِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ؛ بَلْ ذَلِكَ مُبَدَّلٌ ؛ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ انْقَطَعَ تَوَاتُرُهَا ، وَالْإِنْجِيلَ إنَّمَا أُخِذَ عَنْ أَرْبَعَةٍ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ بَاطِلٌ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ ذَلِكَ قَلِيلٌ . وَقِيلَ لَمْ يُحَرِّفْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ حُرُوفِ الْكُتُبِ وَإِنَّمَا حَرَّفُوا مَعَانِيَهَا بِالتَّأْوِيلِ ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ قَالَ كُلًّا مِنْهُمَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الثَّالِث ُ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَرْضِ نُسَخًا صَحِيحَةً وَبَقِيَتْ إلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُسَخًا كَثِيرَةً مُحَرَّفَةً " انتهى من "مجموع الفتاوى" (13/ 103-104) .
ثالثا :
روى البخاري (7543) ، ومسلم (1699) - واللفظ له - عن ابن عمر أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ زَنَيَا ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَ يَهُودَ ، فَقَالَ: ( مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى ؟) قَالُوا : نُسَوِّدُ وُجُوهَهُمَا، وَنُحَمِّلُهُمَا ، وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا ، وَيُطَافُ بِهِمَا ، قَالَ : ( فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ، فَجَاءُوا بِهَا فَقَرَؤوهَا حَتَّى إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ الْفَتَى الَّذِي يَقْرَأُ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ، وَقَرَأَ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا ، وَمَا وَرَاءَهَا ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مُرْهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَه ُ، فَرَفَعَهَا فَإِذَا تَحْتَهَا آيَةُ الرَّجْمِ ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَرُجِمَا "
ورواه أبو داود (4449) ولفظه :
" أَتَى نَفَرٌ مِنْ يَهُودٍ ، فَدَعَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقُفِّ - اسم واد بالمدينة - فَأَتَاهُمْ فِي بَيْتِ الْمِدْرَاسِ ، فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِمِ : إِنَّ رَجُلًا مِنَّا زَنَى بِامْرَأَةٍ ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ، فَوَضَعُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِسَادَةً فَجَلَسَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ قَالَ : ( بِالتَّوْرَاةِ ) ، فَأُتِيَ بِهَا ، فَنَزَعَ الْوِسَادَةَ مِنْ تَحْتِهِ ، فَوَضَعَ التَّوْرَاةَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ قَالَ : ( آمَنْتُ بِكِ وَبِمَنْ أَنْزَلَكِ ) ثُمَّ قَالَ : ( ائْتُونِي بِأَعْلَمِكُمْ ) ، فَأُتِيَ بِفَتًى شَابّ ٍ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ الرَّجْمِ .
وحسنه الألباني في " صحيح أبي داود " .

قال في "عون المعبود" :
" ( وَوَضَعَ التَّوْرَاة عَلَيْهَا ) : أَيْ عَلَى الْوِسَادَة ، وَالظَّاهِر أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ التَّوْرَاة عَلَى الْوِسَادَة تَكْرِيمًا لَهَا , وَيُؤَيِّدهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( آمَنْت بِك وَبِمَنْ أَنْزَلَك ) " انتهى .
فوضع النبي صلى الله عليه وسلم نسخة التوراة على الوسادة تعظيما لها لما تتضمنه من الحق ، فيحتمل أن هذه النسخة لم يطلها التبديل والتحريف ، ويحتمل أن يكون بعضها محرفا ، وبعضها غير محرف ، ورفعها النبي صلى الله عليه وسلم على الوسادة تعظيما لما بها من الحق .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عند شرحه لهذا الحديث :
" وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُسْقِطُوا شَيْئًا مِنْ أَلْفَاظِهَا - يعني التوراة - ؛ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِذَلِكَ غَيْرُ وَاضِحٍ ؛ لِاحْتِمَالِ خُصُوصِ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ ، وَكَذَا مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي أُحْضِرَتْ حِينَئِذٍ كَانَتْ كُلُّهَا صَحِيحَةً سَالِمَةً مِنَ التَّبْدِيلِ ؛ لِأَنَّهُ يَطْرُقُهُ هَذَا الِاحْتِمَالَ بِعَيْنِهِ ، وَلَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ : ( آمَنْتُ بِكَ وَبِمَنْ أَنْزَلَكَ ) لِأَنَّ الْمُرَادَ أَصْلُ التَّوْرَاةُ " انتهى من "فتح الباري" (12/ 172) .

ولا نستطيع أن نقطع بواحد من الاحتمالين ، وإنما المقطوع به : أن قوله في الحديث : ( فَجَاءُوا بِهَا فَقَرَءُوهَا حَتَّى إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ الرَّجْمِ ... ) يدل على أن هذا القدر من التوراة ، الذي قرءوه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنه آية الرجم : هو من التوراة المنزلة غير المحرفة .

والله تعالى أعلم .