عنوان الفتوى : شبهات حول تحريم البناء على القبور ودعوة الشيح محمد بن عبد الوهاب وردّها
ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليَّ بن أبي طالب أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سوّاه . لكن بعض الجماعات التي تغالي في الأولياء تقول إن القبور التي أمر عليٌ بتسويتها إنما هي قبور لبعض اليهود والنصارى ، وقد كان مشهورا عنهم أنهم يرفعون البناء فوق القبر نفسه ، أمّا نحن فإننا لا نبني فوق القبر ولا نمسه وإنما نبني حوله . وليس فوق القبر إلا السقف ، وهذا ليس بحرام ؛ لأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الشاكلة أيضاً . ويستدلون أيضا بالحديث الذي ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للشام واليمن ، ولم يَدْعُ لنَجْد ، فقيل له : ونجدنا .. فقال : يطلع فيها قرن الشيطان . ويشيرون إلى أن قرن الشيطان هو محمد بن عبد الوهاب النجدي ، الذي أتى بكل هذه الأمور ، وقال : إنها شرك . ويصفونه وأتباعه بأنهم روافض ، وأنهم أضلوا الأمّة ، ووسعوا دائرة الشرك حتى حَوَت الكثيرَ من العبادات ، وهذه عادة الروافض حسب زعمهم . فما تعليقكم ؟
الحمد لله
أولا :
روى مسلم (969) عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ ، قَالَ : قَالَ لِي عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ : أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ( أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ
، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ ) .
قال النووي رحمه الله :
" فِيهِ : أَنَّ السُّنَّةَ أَنَّ الْقَبْرَ لَا يُرْفَعُ عَلَى الْأَرْضِ رَفْعًا
كَثِيرًا ، وَلَا يُسَنَّمُ ؛ بَلْ يُرْفَعُ نَحْوَ شِبْرٍ وَيُسَطَّحُ ، وَهَذَا
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ
أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَفْضَلَ عِنْدَهُمْ تَسْنِيمُهَا ، وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ " انتهى من " شرح النووي على مسلم " (7/ 36) .
وقال القاري رحمه الله :
" قَالَ الْعُلَمَاءُ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرْفَعَ الْقَبْرُ قَدْرَ شِبْرٍ ،
وَيُكْرَهُ فَوْقَ ذَلِكَ ، وَيُسْتَحَبُّ الْهَدْمُ ، وفِي قَدْرِهِ خِلَافٌ ،
قِيلَ إِلَى الْأَرْضِ تَغْلِيظًا ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ ، أَيْ :
لَفْظِ الْحَدِيثِ مِنَ التَّسْوِيَةِ ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ : هَذَا
الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيَةِ الْقُبُورِ
بِالْبِنَاءِ الْعَالِي ، وَلَيْسَ مُرَادُنَا ذَلِكَ بِتَسْنِيمِ الْقَبْرِ ، بَلْ
بِقَدْرِ مَا يَبْدُو مِنَ الْأَرْضِ ، وَيَتَمَيَّزُ عَنْهَا " انتهى من " مرقاة
المفاتيح " (3/ 1216) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" معنى سويتَه ، يعني نقضته وهدمته حتى يستوي بالأرض ، ما يبقى إلا علامة القبر قدر
شبر ونحوه . هكذا شرع الله القبور : أن ترفع قدر شبر من الأرض ، حتى يعرف أنها قبور
، لا توطأ ولا تمتهن ولا يبنى عليها " انتهى من " فتاوى نور على الدرب " (2/ 369) .
ودعوى أن الأمر بتسوية
القبور خاص بقبور اليهود والنصارى دعوى باطلة ، وذلك لما يلي :
أولا : أن الأمر عام ، والخصوصية تحتاج إلى دليل تخصيص ، ولا دليل على ذلك ، وإنما
الدليل على خلافه .
فقوله : ( لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا
إِلَّا سَوَّيْتَهُ ) ، نكرة في سياق النهي ، فتعم كل قبر ، لأن النكرة في سياق
النفي أو النهي تعم ، كقوله تعالى : (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ
ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) الكهف/ 23، 24 ، وقوله تعالى : (وَلَا
تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) القصص/ 88 ، قال القرافي رحمه الله : "
النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ ، كَالنَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ :
تَعُمُّ " انتهى من " الفروق " (1/ 191) .
ثانيا : روى مسلم (968) -
قبل هذا الحديث مباشرة - ، عن ثُمَامَةَ بْن شُفَيٍّ قَالَ : " كُنَّا مَعَ
فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِأَرْضِ الرُّومِ بِرُودِسَ ، فَتُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَنَا
، فَأَمَرَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ بِقَبْرِهِ فَسُوِّيَ ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا " .
فهذا فعل صحابي ، بقبر رجل من المسلمين ، بمقتضى ما فهمه من أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم بتسوية القبور .
ثالثا : لو جاز القول بأن الأمر بتسوية القبور خاص بقبور اليهود والنصارى ، لكان لقائل أن يقول : إن الأمر بطمس الصور والتماثيل خاصا بهم أيضا ، لأن الأمرين وردا في الحديث معا ، وهو باطل ، كما لا يخفى ، ولم يقل به أحد من أهل العلم .
ثانيا :
البناء فوق القبر - سواء كان فوق القبر مباشرة أو كان حول القبر - أمر محرم لأنه من
تعظيمها ، وهو ذريعة إلى الشرك والفتنة بها .
ولا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من أصحابه أنهم أمروا بالبناء على
قبورهم ، وجعلها في أضرحة أو بيوت تحيط بها ، وإنما المعروف النهي عن ذلك . وهذه
قبور الصحابة في البقيع إلى اليوم ، ظاهرة للناس ، ليست مرفوعة ، وليس على شيء منها
بناء من ضريح أو غيره .
أما قبر النبي صلى الله عليه
وسلم : فهلم نحتكم إلى سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده بشأن قبره صلى
الله عليه وسلم ، فيقال للمخالف :
لو كان البناء على القبر من السنة لأمر به النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه
الراشدون ، والحاصل خلاف ذلك ، وإنما بنى المسلمون على قبره صلى الله عليه وسلم ،
وعلى قبر صاحبيه رضي الله عنهما ، لما احتاجوا إلى توسعة المسجد ، فبنوا على القبر
حيطانا ، لئلا يظهر أنه من المسجد فيصلي إليه العوام ، ويفتن به الجهال .
روى البخاري (1390) ومسلم (529) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ
يَقُمْ مِنْهُ : ( لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ) ، لَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ
خَشِيَ - أَوْ خُشِيَ - أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا .
قال النووي رحمه الله :
" قَالَ الْعُلَمَاء : إِنَّمَا نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ اِتِّخَاذ قَبْره وَقَبْر غَيْره مَسْجِدًا : خَوْفًا مِنْ الْمُبَالَغَة فِي
تَعْظِيمه وَالِافْتِتَان بِهِ , فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْكُفْر ، كَمَا
جَرَى لِكَثِيرٍ مِنْ الْأُمَم الْخَالِيَة . وَلَمَّا اِحْتَاجَتْ الصَّحَابَة -
رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَالتَّابِعُونَ ، إِلَى الزِّيَادَة فِي
مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين كَثُرَ
الْمُسْلِمُونَ ، وَامْتَدَّتْ الزِّيَادَة إِلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوت أُمَّهَات
الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ , وَمِنْهَا حُجْرَة عَائِشَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهَا -
مَدْفِن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْر
وَعُمَر، رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بَنَوْا عَلَى الْقَبْر حِيطَانًا مُرْتَفِعَة
مُسْتَدِيرَة حَوْله ، لِئَلَّا يَظْهَر فِي الْمَسْجِد , فَيُصَلِّي إِلَيْهِ
الْعَوَامّ ، وَيُؤَدِّي الْمَحْذُور , ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيْ
الْقَبْر الشَّمَالِيَّيْنِ , وَحَرَّفُوهُمَا حَتَّى اِلْتَقَيَا ، حَتَّى لَا
يَتَمَكَّن أَحَد مِنْ اِسْتِقْبَال الْقَبْر , وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيث : "
لَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْره , غَيْر أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذ مَسْجِدًا
" انتهى من " شرح النووي على مسلم " (5/ 14) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" لَمْ يُشَرِّعْ النبيّ صَلى اللهُ عَليْه وسلّم لِأُمَّتِهِ أَنْ يَبْنُوا عَلَى
قَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا رَجُلٍ صَالِحٍ ، لَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَلَا غَيْرِهِمْ
، لَا مَسْجِدًا وَلَا مَشْهَدًا . وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِسْلَامِ مَشْهَدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى قَبْرٍ ،
وَكَذَلِكَ عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَأَصْحَابِهِ الثَّلَاثَةِ
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةَ ، لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِمْ
مَشْهَدٌ مَبْنِيٌّ لَا عَلَى قَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ ، لَا عَلَى قَبْرِ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ " انتهى من " منهاج السنة النبوية "
(1/ 479) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" كَانَتْ قُبُورُ أَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم لَا مُشْرِفَةً، وَلَا لَاطِئَةً
، وَهَكَذَا كَانَ قَبْرُهُ الْكَرِيمُ ، وَقَبْرُ صَاحِبَيْهِ ، فَقَبْرُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمٌ مَبْطُوحٌ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ
الْحَمْرَاءِ لَا مَبْنِيَّ وَلَا مُطَيَّنَ ، وَهَكَذَا كَانَ قَبْرُ صَاحِبَيْهِ
" انتهى من " زاد المعاد " (1/ 505) .
وروى أبو داود " في المراسيل " (421) عن صالح بن أبي الأخضر ، قال : " رأيت قبر
النبي صلى الله عليه وسلم شبرا ، أو نحوا من شبر " .
راجع جواب السؤال رقم : (126400) .
ثالثا :
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي
شَأْمِنَا وفِي يَمَنِنَا . قَالُوا : وَفِي نَجْدِنَا ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ
بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا وفِي يَمَنِنَا . قَالُوا : وَفِي نَجْدِنَا ؟ قَالَ :
هُنَاكَ الزَّلاَزِلُ وَالْفِتَنُ ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ ) رواه
البخاري (1037) ومسلم (2905) ، واللفظ للبخاري .
والحديث يشمل كل ( نجد ) :
أي كل مرتفع من الأرض بالنسبة للحجاز في جهة المشرق ، وذلك يشمل نجد الحجاز ونجد
العراق .
فالاستدلال بهذا الحديث على ذم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي دعا
فيها الناس إلى التوحيد الخاص ، ونبذ الشرك وعبادة القبور من الباطل المحض .
انظر بيان ذلك مفصلا في جواب السؤال رقم : (36616)
، (99569) .
وراجع للفائدة جواب السؤال رقم : (126907)
، (148439) .
والله تعالى أعلم .