عنوان الفتوى : تشعر برفض عائلتها لها

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

تَرَكَت أمي والدي قبل ولادتي ؛ لأنها لم ترد لي أن أتربي في بيت مليئ بالمشاحنات ، ونشأت في بلد غربي ، ووجدت نفسي غير قادرة على إيجاد موطىء قدم لي في خضم هذا المجتمع ، ودارت بي الحياة دورتها ، فتهت كثيراً ، وتمردت في سن العشرين ، وحاولت الانصهار مع من حولي من الجموع ، فتعبت ، وشعرت بالإقصاء ، ودرست ودرست وحصلت على الكثير من الشهادات ، ومع هذا لم أستطع الحصول على عمل ، وأصبحت موضع سخرية ومثار سُخط من الكل حتى زوج أمي ، وأصبح كثيرَ النقد لأمي ، ورأيتها تفقد ثقتها شيئاً فشيئاً ، وكثرت الخلافات بينهما ، فتَرَكَتْه عدة مرات ، فكان هو من يعود إليها ، إلى أن استسلمت في الأخير ، وهدء الجميع بتقادم الأعوام ، غير أن الأضرار بقيت هناك . ورزقت أمي بولد من زوجها ، وحاولت أن أقوي أواصر الإخاء بيني وبينه ، فلم أجد تحمساً من قبلهما ، ثم بعد ذلك عثرت على أبي وحاولت التعرف إليه ، فشك الجميع في دوافعي خصوصاً أنه ميسور الحال هناك في بلده ، ومؤخراً شجعتني أمي على إضافة اسم أبي الحقيقي إلى شهادة ميلادي ووثائقي ، ففعلت ، فانتهى بي الأمر إلى مشاكل جمّة . وأصبحت الآن امرأة شديدة الحساسية ، مفرطة في العاطفة ، تشعر بأن الحياة أثقلتها بالجراح ، وتركتني أعاني القلق والانطواء من الناس ، والمكوث في البيت طيلة الوقت إلا ما ندر . فما العمل ، وهل احتفظ باسم أبي أم لا ؟ إنه يسخر مني ومن مشاعري وتجاربي ، وأصبح الجميع يرفضني ، فلماذا ؟

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق


الحمد لله
لا بد أن ندرك جميعا أن العلاج دائما ينبع من الذات ، وينطلق من النفس ، هي القادرة على تحقيق " الطمأنينة " في حياتها ولو كانت وسط الابتلاء ، وهي المتسببة أيضا بالمرض والقلق ولو كانت تتقلب في النعيم ، وما دام هناك من الظروف الحياتية ، التي تفرض على المرء فرضا ، ولا يملك في كثير من الأحيان إزاءها شيئا من التغيير أو التحويل ؛ فليس أقل من العمل على تغيير نفسيته ومكنونه .
وأول ذلك يبدأ بإدراك أن المشاكل الحياتية ، والهموم المعاشية ، أنواع ودرجات ، فأعلاها – بحسب خبرتنا – تلك التي تكون الكلمة فيها للمرض الشديد ، أو الأَسْر والسجن ، أو الظلم والقهر والعدوان ، وأدناها تلك الهموم التي ترتبط بالمشاعر النفسية أكثر من الواقع الأليم ، كالشاب الذي يشعر بالإحباط بسبب بطالته ، أو الفتاة التي لم تتزوج ، أو الإنسان الذي لم يتأقلم مع بيئته ومجتمعه ، فهي في حقيقتها من أيسر ما يمكن أن يواجه المرء في حياته ، إذا هو أحسن التعامل معها ، وأصر على العلاج ، خاصة إذا ما قورنت تلك المعاناة النفسية بأنواع الابتلاء العظيمة التي نراها اليوم في بعض بلاد المسلمين .
فإذا أدركت معنا ما سبق عرفت أنه لا أنفع ولا أنجع من إشغال نفسك – بل إغراق نفسك – بالمشاغل النافعة ، والأعمال الصالحة المنتجة ، التي تعود عليك وعلى المجتمع بالخير في الدنيا والآخرة ، فتستثمرين جهدك في البحث عن عمل ملتزم ، ولو اقتضى منك الأمر الأيام كلها في البحث والتفتيش ، وتبحثين عن أنشطة المراكز الإسلامية القريبة ، فتلتزمين بحضورها والتفاعل معها ، خاصة منها ما يتعلق بحفظ القرآن الكريم وتعلمه ، وتنضوين أيضا في جمعيات العمل الخيري التي تقدم المساعدة للمحتاجين أو تقوم بأنشطة مجتمعية محلية ، كما لديك فرصة قوية في الانضمام إلى الدورات التدريبية ، للارتقاء أكثر في مهاراتك وقدراتك ، وغير ذلك الكثير الكثير من الأفكار التي لو استغرقت الأيام في محاولة استجماعها لبان لك منها الشيء الكثير ، وكلها أعمال تستغرق أعمارا طويلة لإنجازها ، فكيف إذا جمعت لها برنامجا خاصا ترتقين فيه بعباداتك بينك وبين الله ، كصيام التطوع - ولو ثلاثة أيام من كل شهر ، على أقل تقدير ، وقيام الليل ولو ركعتين في السحر ، والتسبيح والذكر لله سبحانه .
إنها لحياة جميلة أن يتفرغ المرء فيها لكل هذه الأشياء ، فيستغني بها عن الناس ، ويستمر في نجاحه وتقدمه ، إلى حين أن يجد الفرصة لإثبات كفاءته ، وتقديم مهارته ، ولو بعد سنوات طويلة ، فكم من علم يمكن أن يتعلمه المرء اليوم ، ولا يجد فرصة للعمل به إلا في آخر عمره ، فإن لم تتوفر الفرصة فقد أدينا ما علينا من واجب وقتنا وعمرنا ، وحسبنا أننا قضينا سفرنا إلى ربنا سبحانه ونحن في الحياة الصالحة ، والأعمال النافعة ، وكلها في موازين حسناتنا بإذن الله ، سواء منها العبادات الخاصة أم غيرها ، متى خلصت نية العبد فيها .
عن عبد الرحمن بن مهدي قال :
" لو قيل لحماد بن سلمة : إنك تموت غدا ! ما قدر أن يزيد في العمل شيئا ".
انتهى من " تهذيب الكمال " (7/265) .
فلو كلنا حاولنا أن نكون ذلك الرجل ، أو قريبا من ذلك ؛ فهل ترانا سنصاب بالقلق والاكتئاب !! أم هل ترانا سنكترث كثيرا لإقبال بعض الناس إلينا ، أو انصرافهم عنا !!
نعتقد أن العناية بهذا العلاج من أهم أسباب السعادة .
فكيف إذا قرأت شيئا من كلام العلماء عن مفاسد " كثرة الخلطة " بالناس ، وما تؤدي إليه العلاقات الكثيرة من أضرار على النفس والقلب والروح .
يقول ابن القيم رحمه الله :
" فأما ما تؤثره كثرة الخلطة : فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود ، يوجب له تشتتا وتفرقا ، وهما وغما ، وضعفا ، وحملا لما يعجز عن حمله من مؤونة قرناء السوء ، وإضاعة مصالحه ، والاشتغال عنها بهم وبأمورهم ، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم ، فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة ؟
هذا ، وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ، ودفعت من نعمة ، وأنزلت من محنة ، وعطلت من منحة ، وأحلت من رزية ، وأوقعت في بلية !
وهل آفة الناس إلا الناس !
وهل كان على أبي طالب عند الوفاة أضر من قرناء السوء ؟ لم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة توجب له سعادة الأبد ...
والضابط النافع في أمر الخلطة أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة ، والأعياد والحج ، وتعلم العلم ، والجهاد ، والنصيحة .
ويعتزلهم في الشر ، وفضول المباحات .. . " .
انتهى من " مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين " (1/ 452-453) .

وأما عن أمر نسبك ؛ فلا تترددي في استمرار نسبتك إلى أبيك الحقيقي ، والحرص عليه كل الحرص ؛ فهذا هو الواجب عليك شرعا ، وليس أمرا تحسينيا ، ولا كماليا في حياتك ، بل نسبك الحقيقي : جزء منك ، يتعلق به أمر دينك ودنياك .
ونحن نرجو لك ، أنك متى حاولت أن تشغلي نفسك بالأمر النافع ، على ما سبق ذكره لك ، واجتناب الخلطة مع من لا تقربك خلطته من ربك ؛ نرجو لك أن تلمسي تغيرا جذريا في حياتك ونفسك ، واعلمي أن تغير النفس سبيل أكيد لانفعال ما حولك ومن حولك معك .
كما ننصحك بمراجعة مزيد من الاستشارات التي سبق تقديمها في موقعنا ، في الأرقام الآتية :
(47026) ، (129102) ، (178693) ، (100267) .
والله أعلم .