عنوان الفتوى : حكم من ادعى أن نبي الله إبراهيم عبد الكواكب قبل نبوته
ما حكم من يدعي أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ عبد قبل نبوته الكواكب حتى جاءته النبوة وأتاه اليقين؟ أرجو أن يتكرم الإخوة المختصون في العقيدة في مركزكم العامر بالإجابة على هذا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يشرك بربه قط، ولم يعبد الكواكب وقد ذكر الله عنه البعد عن الشرك في القرآن، وذلك في قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {الأنعام:79}.
وقال: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {النحل:123}. وقال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {النحل:120}.
وقال الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسير قوله تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ {الشورى:52} نقلاً عن القاضي عياض: والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة، منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان، بل على إشراق أنوار المعارف ونفحات ألطاف السعادة، ومن طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك، كما عرف من حال موسى وعيسى ويحيى وسليمان وغيرهم ـ عليهم السلام ـ قال الله تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً {مريم:12} قال المفسرون: أعطي يحيى العلم بكتاب الله في حال صباه، قال معمر: كان ابن سنتين أو ثلاث، فقال له الصبيان: لم لا تلعب؟ قال: أللعب خلقت؟ إلى أن قال: قال القاضي: ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحداً نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك، ومستند هذا الباب النقل، وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله، قال القاضي: وأنا أقول إن قريشاً قد رمت نبينا عليه الصلاة والسلام بكل ما افترته، وعيَّر كفار الأمم أنبياءهم بكل ما أمكنها واختلقته، مما نص الله عليه أو نقلته إلينا الرواة، ولم نجد في شيء من ذلك تعييراً لواحد منهم برفضه آلهتهم وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه، ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين وبتلونه في معبوده محتجين، ولكان توبيخهم عمَّا كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركه آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم من قبل، ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلاً إليه، إذ لو كان لنقل وما سكتوا عنه كما لم يسكتوا عن تحويل القبلة وقالوا: مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا {البقرة:142} كما حكاه الله عنهم.... اهـ.
وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ {الأنعام:76}.
أن هذا الكلام على وجه المناظرة والتنزل مع الخصم، كما قال الشيخ السعدي: هذا على وجه التنزل مع الخصم أي: هذا ربي فهلم ننظر، هل يستحق الربوبية؟ وهل يقوم لنا دليل على ذلك؟ فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه، بغير حجة ولا برهان.
وقال ابن كثير في تفسيره: اختلف المفسرون في هذا المقام، هل هو مقام نظر أو مناظرة، فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلاً بقوله: لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ... والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام.
وقال صديق حسن القنوجي في تفسيره فتح البيان: ثم اختلف في تأويل هذه الآية، فقيل: أراد إقامة الحجة على قومه كالحاكي لما هو عندهم وما يعتقدونه، لأجل إلزامهم، وقيل: معناه، أهذا ربي؟ أنكر أن يكون مثل هذا رباً، ومثله قوله تعالى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ {الأنبياء:34} أي: أفهم الخالدون؟ وقيل المعنى: وأنتم تقولون: هذا ربي، فأضمر القول، وقيل المعنى: على حذف مضاف، أي هذا دليل ربي. انتهى.
وأما عن مدعي هذا القول: فهو قول سوء، كما قال الإمام أحمد فيمن زعم أن رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه، وقد قال ابن رجب: قال حنبل: قلت لأبي عبد الله ـ يعني الإمام أحمد رضي الله عنه: من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه قبل أن يبعث؟ قال: هذا قول سوء، ينبغي لصاحب هذه المقالة أن يحذر كلامه ولا يجالس. اهـ.
فإن كان هذا المدعي جاهلا فينبغي أن يعلم، وإن كان متعلقا بشبهة فقد بينا كلام المفسرين في رد تلك الشبهة ولا ينبغي تكفيره طالما أنه لم يقصد التنقص من قدر إبراهيم صلى الله عليه وسلم والحط من مكانته، وإنما زعم حصول هذا قبل الرسالة، ومثل هذا من قال بجواز وقوع الذنوب من الرسل وأنهم لا يقرون عليها، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: اتفق علماء المسلمين على أنه لا يكفر أحد من علماء المسلمين المنازعين في عصمة الأنبياء، والذين قالوا: إنه يجوز عليهم الصغائر والخطأ ولا يقرون على ذلك لم يكفر أحد منهم باتفاق المسلمين، فإن هؤلاء يقولون: إنهم معصومون من الإقرار على ذلك، ولو كفر هؤلاء لزم تكفير كثير من الشافعية، والمالكية، والحنفية، والحنبلية والأشعرية، وأهل الحديث، والتفسير والصوفية: الذين ليسوا كفارا باتفاق المسلمين. اهـ.
والله أعلم.