عنوان الفتوى : القول بتجويز الكبائر والصغائر على الأنبياء
ما حكم من اعتقد أو شكّ في أن الرسل يفعلون الكبائر -كالزنى- أو صغائر الرذائل، وبالذات النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟ وما حكمي أنا إن اعتقدت أن من اعتقد هذا آثم، ولكني توقفت عن الحكم عليه بالكفر؛ خوفًا من القول بغير علم؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالقائل بتجويز الكبائر، وصغائر الخسة على الأنبياء، وخاصة نبينا صلى الله عليه وسلم مخطئ, وقد نسب هذا القول إلى الحشوية، وبعض الخوارج.
ومع خطئه، فليس هذا مما يكفر به، ولم نجد من نص من العلماء على أن اعتقاد مثل هذا كفر، وإن كان خطأ، قال السفاريني -رحمه الله- في شرح عقيدته ما عبارته: قال شيخ الإسلام ابن تيمية -روح الله روحه-: الناس متفقون على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله، فلا يستقر في ذلك خطأ، باتفاق المسلمين، ولكن هل يصدر منهم ما يستدركه الله تعالى، فينسخ ما يلقي الشيطان، ويحكم الله آياته؟
هذا فيه قولان، قال: والمأثور عن السلف يوافق القول بذلك.
قال: وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة، فللناس فيه نزاع: هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر، أو من بعضها، أو هل العصمة إنما هو في الإقرار عليها، لا في فعلها، وقيل: لا يجب القول في العصمة إلا بالتبليغ فقط.
قال: وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل البعثة أم لا؟
قال: والذي عليه الجمهور الموافق للآثار إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقًا.
قال: ووقوع الذنب إذا لم يقرّ عليه، لم يحصل منه تنفير، ولا نقص، فإن التوبة النصوح يرفع بها صاحبها أكثر مما كان أولًا، وكذلك التأسي بهم إنما هو فيما أقروا عليه، بدليل النسخ، ونحوه. انتهى.
وقال ابن حمدان في نهاية المبتدئين: وإنهم معصومون فيما يؤدون عن الله تعالى، وليسوا معصومين في غير ذلك من الخطأ، والنسيان، والسهو، والصغائر، في الأشهر، لكن لا يقرّون على ذلك.
وقال ابن عقيل في الإرشاد: إنهم - عليهم الصلاة والسلام - لم يعتصموا في الأفعال، بل في نفس الأداء، قال: ولا يجوز عليهم الكذب في الأقوال فيما يؤدونه عن الله تعالى. انتهى.
وقال الحافظ زين الدين العراقي: النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من تعمد الذنب بعد النبوة بالإجماع، ولا يعتد بخلاف بعض الخوارج، والحشوية الذين نقل عنهم تجويز ذلك، ولا بقول من قال من الروافض بجوازها تقية، وإنما اختلفوا في جواز وقوع الصغيرة سهوًا، فمنعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، والقاضي عياض، واختاره تقي الدين السبكي، قال: وهو الذي ندين الله به. وأجازه كثير من المتكلمين.
قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش، والكبائر الموبقات، قال: وقد ذهب بعضهم إلى عصمته من مواقعة المكروه قصدًا. انتهى.
وقال العلامة السعد التفتازاني: وفي عصمتهم من سائر الذنوب تفصيل، وهو أنهم معصومون عن الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع، وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور، خلافًا للحشوية، وإنما الخلاف في أن امتناعه بدليل السمع، أو العقل، وأما سهوًا فجوّز الأكثرون، قال: وأما الصغائر، فتجوز عمدًا عند الجمهور، خلافًا للجبائي وأتباعه، وتجوز سهوًا بالاتفاق، إلا ما يدل على الخسة، كسرقة لقمة، والتطفيف بحبة، لكن المحققين شرطوا أن ينهوا عنه، فينتهوا منه، هذا كله بعد الوحي. قال: وأما قبله، فلا دليل على امتناع صدور الكبيرة، وذهب المعتزلة إلى امتناعها؛ لأنها توجب النفرة المانعة من اتباعهم، فتفوت مصلحة البعثة.
قال السعد: والحق منع ما يوجب النفرة، كعهر الأمهات، والفجور، والصغائر الدالة على الخسة، ومنع الشيعة صدور الصغيرة والكبيرة منهم قبل الوحي وبعده، ولكنهم جوزوا إظهار الكفر تقية. انتهى كلام السفاريني.
وحكى ابن حزم في الفصل القول بعدم العصمة عما سوى الكذب في التبليغ عن الكرامية، وابن الباقلاني من الأشعرية، وقد عرفت أن هذا القول خطأ، فيبين لمعتقده خلافه الصواب، وأن هذا المعتقد خلاف ما عليه جماهير المسلمين، وأما التكفير فأمر وراء ذلك.
والله أعلم.