عنوان الفتوى : بيان خطأ الزعم بتكذيب النبي لزيد بن أرقم
هل تكذيب الرسول الأعظم - عليه الصلاة والسلام - لزيد بن الأرقم يعني عدم عدالة الصحابة؟ فقد روى البخاري: حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن زيد بن أرقم قال: كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله, ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل, فذكرت ذلك لعمي أو لعمر فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم, فدعاني فحدثته, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه, فحلفوا ما قالوا, فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه, فأصابني همٌّ لم يصبني مثله قط, فجلست في البيت, فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك؟ فأنزل الله تعالى: "إذا جاءك المنافقون" فبعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ, فقال: إن الله قد صدقك يا زيد.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه القصة إنما يصح الاستدلال بها على وجود المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا خلاف في حصوله, وقد أنزل الله في ذلك سورة باسمهم - وهي سورة المنافقون -.
وأما الاستدلال بها على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن أرقم هكذا بإطلاق فلا يصح، فضلًا عن أن يتعدى ذلك إلى الحكم بعدم عدالة الصحابة!! لأن الحديث ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى ابن سلول يسأله عما بلغه.
وهذا يدل على أن الأصل في زيد بن أرقم - كغيره من الصحابة - هو الصدق, ولكن ابن سلول وأصحابه المنافقين حلفوا كذبًا، فعمل النبي صلى الله عليه وسلم بظاهر حالهم، وأوكل بواطنهم إلى الله، والظاهر هو تقديم قول الحالفين مع عددهم وكبر سنهم, فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم خبر زيد لمكان القسم, واجتماع بعض الكبار على مخالفته، وهو حدث السن.
وفي الصحيح رواية للحديث بلفظ: فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيّ فسأله فاجتهد يمينه ما فعل, قالوا: كذب زيدٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا معناه أن من كذَّب زيدًا هم ابن سلول وأصحابه, وأقسموا على ذلك، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم؛ ولذلك قال المزي في ترجمة زيد من تهذيب الكمال: هو الذي رفع إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَن عَبد اللَّهِ بن أَبي بن سلول قوله: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} فأكذبه عَبد اللَّهِ بْن أَبي، وحلف ما قال، فأنزل الله تعالى تصديق زَيْد بْن أرقم.
وهكذا ينبغي أن تُفهم القصة, وأن تُحكى، فالقرآن الكريم نزل يُصدق زيدًا ويحكي ما قاله المنافقون، فاجتمع بذلك تصديق زيد، وتكذيب المنافقين، وهذا هو الواقع بالفعل، فالصحابة - رضي الله عنهم - صادقون، ومعاصروهم من المنافقين كاذبون, وهذا لا يجادل فيه منصف.
ثم إنه لو لزم الاستدلال بهذه القصة على صدق زيد أو كذبه، فليكن ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم في نهايتها: إن الله قد صدقك يا زيد. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!
وملمح آخر يحسن التنبيه عليه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل ابن سلول ومن معه من المنافقين بطريقة يتألفهم بها، فيغضي عن أخطائهم, ويقبل معذرتهم - ولو كانت هزيلة -، ويكل غيرهم إلى إيمانه، قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث من الفوائد: ترك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات؛ لئلا ينفر أتباعهم، والاقتصار على معاتباتهم، وقبول أعذارهم, وتصديق أيمانهم - وإن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك - لما في ذلك من التأنيس والتأليف. اهـ.
وأخيرًا: نلفت النظر إلى أن عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - محل إجماع بين أهل العلم المعتبرين، وراجع في ذلك الفتويين: 47533، 102548.
والله أعلم.