عنوان الفتوى : إيضاحات حول عقيدة أهل السنة والأشاعرة
سبق لفضيلتكم إجابتي عن سؤال: 2352202، أستنكر فيه حذفا شاملا ومتعصبا لكل ما يتعلق بالعقيدة من متن ابن عاشر أحد مراجع الفقه المالكي المؤسس على العقيدة، ولي ملاحظات وخواطر أرجو من فضيلتكم بيانها: 1ـ من جهة الأمانة العلمية أشكركم على تصحيحكم للمفهوم لدي، ولكن أخلاقي تمنعني من العكس ذلك بأنه لو كان بيدي كتاب أو مقالة لوهابي، فإني لن أحذف منها ما ينسب للشيوخ ابن عبد الوهاب والألباني وابن باز والعثيمين وغيرهم، بل أدرج ما ووري وغاب من آراء علمية مخالفة للوهابيين مضيفا أنها مسائل خلافية كل عالم له فيها اجتهاد ولا أحد منهم يستطيع أن يبرهن أنه أصاب مراد الله تعالى في مسألة خلافية بدون وحي وكما قال أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه: هم رجال ونحن رجال ـ وما كان صحيحا عند أحد العلماء يكون غير معتمد عند غيره والعكس جائز. 2ـ لقد اعتمدتم في شرحكم على حاشية العدوي التي هي حاشية على شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني وليس متن ابن عاشر المتعلق به سؤالي، ومن شروح متن ابن عاشر كتاب الشيخ ميارة في شكلين مختصر وآخر أكمل منه، وقد راجعته وهو لا يشرح الوحدانية كما في حاشية العدوي، فبات الاستشهاد بحاشية العدوي غير ذي موضوع. 3ـ ولو اعتبرنا حاشية العدوي، فالمقطع المستشهد به متبوع بالحجج له، وقد وقع الاقتصار على الاعتراض على القول دون مناقشة الحجة الموالية للقول، فالحجة على وحدة الصفات الواردة بحاشية العدوي لم يقع إبطالها. 4ـ لقد وقع الاستشهاد ببعض ما كتب الشيخ الحوالي الذي لا أعرفه، فبحثت عنه وقرأت عديدا من كتاباته المنشورة على الشبكة فوجدتني لا أرتاح إليه ولا أطمئن إلى علمه اعتمادا على مقاييس علمية وموضوعية، وأهم ما لاحظت عليه: أـ لقد كانت لهجة الشيخ الحوالي في موقعه على الشبكة متحدثا عن الشيخ الصابوني شديدة وقاسية وهي أخلاق تقصيه من مجموع العلماء الذين أطمئن لهم، إذ إن شدته على المؤمنين مخالفة لما ورد في آخر سورة الفتح، وكم تعجبني أخلاق القرطبي إذ قال: رحم الله الزمخشري لقد أجاد في هذه المسألة ـ والمعتزلة قريبون من الكفر. ب ـ لقد كتب الشيخ الحوالي كتابا مطولا ينتقد فيه الأشاعرة ولا يوجد من بين مراجعه ولا كتابا واحدا لأبي الحسن الأشعري رحمه الله وكأنه يهاجم ما لم يقرأه إطلاقا. ج ـ كان من أسلوب الشيخ الحوالي الحديث بصيغة التفرقة بين المسلمين مستعملا منطق نحن وهم، وكان حريا به نهج مقولة الإمام الشافعي رضي الله عنه: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب ـ فمن أين للشيخ الحوالي اليقين بأن رأيه موافق لمراد الله تعالى من النصوص الشرعية؟ بل إن رأيه ظني وهو اجتهاد مخالف للسواد الأعظم من العلماء وإن كان حقا رأيه صوابا كما يقول فلماذا لم يتفق معه السواد الأعظم من العلماء؟ بل إنهم مصرون على مخالفة آراء الشيخ الحوالي عن علم واقتناع، فكل عالم يلزم نفسه بقناعاته وإن ألزم بها الغير فهو التعصب بعينه. د ـ يذكر الشيخ الحوالي في كتابه عن الأشاعرة أقوالا لعلماء أشاعرة ويبطلها دون حجة علمية ودون مناقشة حجج العلماء ودون الرجوع إلى أصول شرعية حتى كانت مقالته أدبية ولا علمية، بل إن ما قاله الشيخ ابن عبد الوهاب ومن تبعه حجة عنده ولو بدون إقناع علمي وأصولي، وإن الشيخ ابن عبد الوهاب ومن تبعه بشر يؤخذ منهم ويرد عليهم وكل أقوالهم قابلة للنقاش والقبول والرفض والتصحيح والإبطال والنقض عند الاقتضاء. 5ـ والحاصل أن مسألة العقيدة الأشعرية ـ التي هي عقيدة أهل السنة والجماعة بإجماع السواد الأعظم من العلماء ـ هي تعلة لتفريق الأمة وبث الفتنة بين صفوف المسلمين خدمة لأعداء الإسلام المستفيدين من خلافاتنا، وكما كتب الشيخ محمد الغزالي رحمه الله فإن طرح المسائل الخلافية بين العامة إجرام لأنه لا يكون إلا بين العلماء في المشيخات والجامعات، ولو سئل مسلم من عامة الناس عن إحداها مثل وحدة الصفات لعجز عن الإجابة، وطرح الخلاف سببه التعصب فقط، إذ إن علماء العقيدة عبروا مختلفين عن الصفات الإلهية بالعقل البشري دون مخالفة الأصول، ولا إنكار في المختلف فيه، إذ الآراء تتكامل وتثري العلماء. 6ـ والتعددية أحد مقاصد الشريعة، فالله تعالى أراد لنا الخلاف رحمة بنا وتوسعة وتيسيرا فمن استعمل الخلاف في تفرقة المسلمين فهو مجرم يريد فرض رأيه البشري المحتمل للخطإ على الناس تعصبا، ومن أدلة التعددية مثلا الباء الواردة في آية الوضوء أهي للتعدي أم للتبعيض؟ فقال بعض العلماء بوجوب مسح كامل الرأس وقال غيرهم بالبعض فقط في خلاف باق إلى يوم القيامة، ولو أراد الله تعالى الحسم لحذف الباء في التنزيل أو لجعل لنا البيان في السنة بوحي. 7ـ لقد قرأت كتاب الإبانة للأشعري فلم أجد فيه كفرا، بل وجدت فيه أنه لا ينكر الوجه واليد والعينين لله تعالى وهو ما يبطل اتهام الشيخ الحوالي للأشاعرة، ولكم جزيل الشكر سلفا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنشكر للسائل الكريم تواصله معنا، ونسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا لما اختلِف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأما النقطة الأولى: فقد سبق لنا في الفتوى السابقة بيان ما نراه صوابا وفاضلا في ما يتعلق بأمانة النقل، وأما مسألة اختلاف أهل العلم في اجتهاداتهم وأفهامهم، وأنه لا يمكن القطع بصحة اختيار واحد منهم عند الخلاف، فهذا صواب في مسائل الخلاف السائغ المعتبر، وأما في الخلاف غير السائغ فليس الأمر كذلك، ومثال ذلك: الخلاف في مسألة القرآن: هل هو كلام الله حقيقة؟ ومسألة علو الله على خلقه واستوائه على عرشه ورؤيته يوم القيامة، ونحو ذلك، مما اتفق عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وراجع الفتوى رقم: 98454.
وأما النقطة الثانية: فرسالة ابن أبي زيد القيرواني وشروحها لا تخفى مكانتها عند المالكية، وكذلك العدوي مكانته في الفقه المالكي معروفة، فهو من أعلامهم في القرن الثاني عشر، وهو أحد صدور ورجالات الأزهر الشريف، ثم إن شرح ميارة الذي ذكره السائل الكريم لا يختلف عنه، فقد قال في شرحه: الوحدانية ـ أي لا ثاني له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فأوجه الوحدانية ثلاثة: وحدانية الذات، ووحدانية الصفات، ووحدانية الأفعال، فوحدانية الذات تنفي التركيب في ذاته تعالى ووجود ذاتٍ أخرى تماثل الذات العلية فتنفي التعدد في حقيقتها متصلاً كان أو منفصلاً، ووحدانية الصفات تنفي التعدد في حقيقة كل واحدٍ منها متصلاً كان أو منفصلاً، فعلم مولانا جل وعز ليس له ثانٍ يماثله لا متصلاً أي قائماً بالذات العلية، ولا منفصلاً أي قائماً بذاتٍ أخرى... اهـ.
وأما النقطة الثالثة: فمن الواضح أننا لم نكن في مجال بحث متخصص في هذه المسألة، بل إننا في معرض إجمال، ويمكن للسائل أن يجد تفصيل هذه المسألة وغيرها في مظانها، ونود من السائل الفاضل أن يرجع إلى كتاب أحد باحثي المغرب العربي وهو الدكتور: خالد علال في رسالته للدكتوراة وهي بعنوان: الأزمة العقيدية بين الأشاعرة وأهل الحديث خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين: مظاهرها، آثارها، أسبابها، والحلول المقترحة لها ـ فسيجد فيه ما يسره، ويوضح له جانبا كبيرا مما أثاره في بقية سؤاله، وكذلك رسالة الدكتوراة للدكتور عبد الرحمن المحمود، وهي بعنوان موقف ابن تيمية من الأشاعرة.
وأما النقطة الرابعة: فلا نرى أننا بحاجة إلى مناقشتها، فالأولى أن يراسل السائل الشيخ سفر الحوالي من خلال موقعه. ولكننا ننبه على أن رسالة الدكتور سفر لم يؤلفها ابتداء في بيان مذهب الأشاعرة، بل هي رد عاجل على بعض من حاول الترويج لهذا المذهب بطريقة فيها إيهام وتلبيس في مقالات صحفية وليست رسالة علمية، وقد وعد بكتاب مفصل فقال في مقدمة رسالته: ونظرا لتعرضه لقضايا بالغة الخطورة تحتاج إلى بحث مستفيض لا تسعه المقالات الصحفية فسوف أرجئ الكلام عنه إلى حين يتيسر لي ـ بإذن الله ـ إخراج الرد في الصورة التي أراها. اهـ.
وعلى أية حال، فإننا نحيل الأخ الكريم على الرسالتين السابقتين لمناقشة ذلك وما بعده من النقاط التي ذكرها.
وبخصوص النقطة الخامسة، فهي جديرة بإنعام النظر، وإلا فالذي شغل عامة المسلمين بمسائل لم ينزل الله بها من سلطان، وألزموهم بالنظر في ما لا يحسنه أكثرهم، وأتوا بأقوال مبتدعة لم ينطق بها نبي ولا صحابي، ولم يكتفوا باقتفاء أثر السلف الصالحين ... من قام بذلك هم أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة ونحوهم!! وأما أهل السنة فعقيدتهم: هي نصوص الآيات الكريمات والأحاديث المحكمات، فلم يلزموا الناس إلا بها، ولم يلقنوهم إلا إياها، وأنكروا ما عداها، فمذهبهم أسلم وأعلم وأحكم، فأي الفريقين أحق باللائمة؟! ومن منهما يتهم بتفريق الأمة؟! أما وصف العقيدة الأشعرية بأنها عقيدة أهل السنة والجماعة بإجماع السواد الأعظم من العلماء!! ففيه ما فيه من المجازفة، وإلا فأين كان هذا المذهب في القرون الثلاثة الأولى؟! وراجع كتاب الفرق الكلامية: المشبهة ـ الأشاعرة ـ الماتريدية.. نشأتها وأصولها وأشهر رجالها وموقف السلف منها ـ للدكتور ناصر العقل ففيه فوائد مهمة، وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 179883، 10400، 38987.
وأما النقطة السادسة: فلا بد فيها من التفريق بين مسائل الخلاف السائغ المعتبر، والخلاف غير السائغ ولا المعتبر -كما أشرنا إليه سابقا- فالمثال الذي ذكره السائل ـ وهو الباء في آية الوضوء ـ من الخلاف السائغ.
وأما النقطة الأخيرة: فلا بد من التنبيه فيها على أن الإمام أبا الحسن الأشعري قد مر بثلاثة مراحل: مرحلة الاعتزال، ثم متابعة ابن كلاب، ثم موافقة أهل السنة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، وقد صرح الأشعري بهذا الموقف الأخير في كتبه الثلاثة: رسالة إلى أهل الثغر، ومقالات الإسلامين، والإبانة، فمن تابع الأشعري على هذه المرحلة، فهو موافق لأهل السنة والجماعة في أكثر المقالات، ومن لزم طريقته في المرحلة الثانية فقد خالف الأشعري نفسه، وخالف أهل السنة في العديد من مقالاتهم، وهذا للأسف هو مذهب الأشاعرة المتبع اليوم، وراجع الفتويين رقم: 10400، ورقم: 5719.
وأما قول السائل: قرأت كتاب الإبانة للأشعري فلم أجد فيه كفرا؟ فإنه يوجب علينا أن نسأل عن من قال بكفر الأشاعرة أصلا. وراجع الفتوى رقم: 147477.
وفي النهاية نعتذر للسائل الكريم عن عدم إعطاء المقام حقه في النقاش، لضيق المجال الذي نحن بصدده وكثرة أسئلة القراء، ولعل في الكتب التي أحلنا عليها كفاية.
والله أعلم.