عنوان الفتوى : توضيح حول صفة عرش الرحمن
ذكرتم في فتاوى سابقة لي مشكورين بأن شكل العرش كالقبة وليس مستديراً وهذا ما رجحه ابن تيمية .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مواضع من كتبه على أن العرش مقبب، ولكنه رحمه الله أورد احتمالين مع هذا، فقد يكون محيطا بالأفلاك، وقد يكون فوقها وليس محيطا بها، والمهم عنده هو إثبات الفوقية والعلو.
قال رحمه الله: الأفلاك مستديرة بالكتاب والسنة والإجماع .. وأهل الهيئة والحساب متفقون على ذلك. وأما العرش فإنه مقبب. اهـ.
ثم أورد دليل ذلك ثم قال: وعلى كل تقدير فهو فوق، سواء كان محيطا بالأفلاك أو غير ذلك اهـ.
وقال في موضع آخر: حديث "إن عرشه فوق سمواته، وسمواته فوق أرضه هكذا - وقال بأصابعه مثل القبة ـ " وإن دل على التقبيب، وكذلك قوله عن الفردوس إنها "أوسط الجنة وأعلاها" مع قوله إن "سقفها عرش الرحمن" وإن فوقها عرش الرحمن، والأوسط لا يكون الأعلى إلا في المستدير فهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، بل إذا قدر أنه فوق الأفلاك كلها أمكن هذا فيه، سواء قال القائل: إنه محيط بالأفلاك. أو قال: إنه فوقها وليس محيطا بها اهـ.
وقد فصل ذلك في رسالته العرشية المشهورة، ومما قال فيها: لا يخلو إما أن يكون العرش كريا كالأفلاك، ويكون محيطا بها، وإما أن يكون فوقها وليس هو كريا ... وأما إذا قدر أن العرش ليس كري الشكل، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض، وأنه فوق الأفلاك الكرية، كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام فوق نصف الأرض الكري، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه وليس كري الشكل، فعلى كل تقدير لا نتوجه إلى الله إلا إلى العلو لا إلى غير ذلك من الجهات اهـ.
فظهر بذلك أن مقصده من كلامه رحمه الله هو إثبات العلو لله تعالى ولعرشه الكريم، وقد بين خلال كلامه أن الأفلاك ليس لها إلا جهتان: العلو والسفل فقط، فالجهة العليا هي جهة المحيط، والجهة السفلى هو المركز.
ومع ذلك فالقول بعدم إحاطة العرش وأنه ليس كالأفلاك قد نص عليه طائفة من أهل العلم.
قال ابن كثير: العرش على الصحيح الذي تقوم عليه الأدلة قبة مما يلي العالم من هذا الوجه، وليس بمحيط كسائر الأفلاك؛ لأنه له قوائم وحملة يحملونه. ولا يتصور هذا في الفلك المستدير، وهذا واضح لمن تدبر ما وردت به الآيات والأحاديث الصحيحة، ولله الحمد والمنة اهـ.
وقال شارح الطحاوية: ذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه: الفلك الأطلس، والفلك التاسع! وهذا ليس بصحيح، لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة .. والعرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: {ولها عرش عظيم} [النمل: 23] . وليس هو فلكا، ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو: سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات اهـ.
وذكر العيني في شرح أبي داود نحو ذلك ثم قال: وبهذا بطل كلام من يقول: إنه فلك مستدير في جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، وهو الفلك التاسع، والفلك الأطلس، والأثير اهـ.
وقال القاسمي في (محاسن التأويل): هذا ـ يعني الوصف بالمقبب ـ لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، ولا مستدير مثل ذلك، لكن لفظ (القبة) يستلزم استدارة من العلوّ، لا من جميع الجوانب، إلا بدليل منفصل. ولفظ (الفلك) يستدل به على الاستدارة مطلقا، كما قال ابن عباس في كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء: 33] : في فلكة مثل فلكة المغزل وأما لفظ (القبة) فإنه لا يتعرض لهذا المعنى، لا ينفي ولا إثبات، لكن يدل على الاستدارة من العلوّ اهـ.
وممن قال بخلاف ذلك من أهل العلم المعاصرين الشيخ عبد الرزاق عفيفي، حيث قال عن الحديث السابق: هذا لا يدل على أن العرش كالقبة فوق السماوات من جانب واحد، فإن السماوات محيطة بالأرض، ومع ذلك فهي كالقبة بالنسبة لكل جماعة على سطح الأرض من الجهة التي تليهم اهـ.
وعلى أية حال فالتكلف في مثل هذه المسائل والتفصيل فيها ليس مأثورا عن السلف الصالح، فالسكوت عنه أولى.
قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي: السكوت عن الكلام في العرش وأنه كالقبة أو فلك مستدير محيط بالكائنات خير من الخوض في ذلك ... فإن الخوض في ذلك والتعمق فيه من شره الفكر، واستشراف العقل إلى إدراك أمر غيبي لا يعلم إلا بالتوقف، فينبغي الوقوف عند النقل اهـ.
وراجع ما سبق أن أحلناك عليه من الفتوى رقم: 132417.
والله أعلم.