عنوان الفتوى : مسألة حول علو الله تعالى على خلقه وإحاطته بمخلوقاته

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

قال الإمام ابن القيم في الصواعق المرسلة:4/1308، إنه إذا كان سبحانه مباينا للعالم فإما أن يكون محيطا به أو لا يكون محيطا به، فإن كان محيطا به لزم علوه عليه ـ قطعا ـ ضرورة علو المحيط على المحاط به، ولهذا لما كانت السماء محيطة بالأرض كانت عالية عليها، ولما كان الكرسي محيطا بالسماوات كان عاليا عليها، ولما كان العرش محيطا بالكرسي كان عاليا، فما كان محيطا بجميع ذلك كان عاليا عليه ضرورة ولا يستلزم ذلك محايثته لشيء مما هو محيط به ولا مماثلته ومشابهته له، فإذا كانت السماء محيطة بالأرض وليست مماثلة لها، فالتفاوت الذي بين العالم ورب العالم أعظم من التفاوت الذي بين الأرض والسماء، وإن لم يكن محيطا بالعالم بأن لا يكون العالم كريا، بل تكون السماوات كالسقف المستوي، فهذا وإن كان خلاف الإجماع وخلاف ما دل عليه العقل والحس فلو قال به قائل لزم ـ أيضا ـ أن يكون الرب تعالى عاليا على العالم، لأنه إذا كان مباينا وقدر أنه غير محيط، فالمباينة تقتضي ضرورة أن يكون في العلو أو في جهة غيره، ومن المعلوم بالضرورة أن العلو أشرف بالذات من سائر الجهات، فوجب ضرورة اختصاص الرب بأشرف الأمرين. فهل معنى هذا الكلام: أن الله عز وجل موجود بذاته خارج العالم في جميع الجهات بكيفية لا نعلمها؟. أرجو إيضاح ذلك.

مدة قراءة الإجابة : 8 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فالذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وأجمع عليه الصحابة والتابعون والأئمة: أن الله تعالى بائن من خلقه مستو على عرشه، وعرشه فوق سمواته، وقد سبق لنا تفصيل ذلك وبيان أدلته وأقوال الأئمة فيه، وذلك في الفتاوى التالية أرقامها: 6707، 66332، 4117.

كما سبق بيان اعتقاد أهل السنة في علو الله وفوقيته بأدلته والجواب على ما أثير حوله من شبهات، وإيراد النقول عن الأئمة في ذلك، في الفتاوى التالية أرقامها: 460170 69060، 76111، 41493.

وقد ذكر الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ كلامه السابق في معرض الاستدلال على ذلك، من وجوه كثيرة، وكان آخرها: الوجه السابع والأربعين بعد المائة: أن الله سبحانه منح عباده فطرة فطرهم عليها لا تقبل سوى الحق ولا تؤثر عليه غيره، ومن أبين ما شهدت به الفطر والعقول والشرائع: علوه سبحانه فوق جميع العالم، ثم قال: وأما تقرير ذلك بالأدلة العقلية الصريحة فمن طرق كثيرة جدا، منها: أنه إذا ثبت بضرورة العقل أنه سبحانه مباين للمخلوقات، وثبت أن العالم كري ـ كما اعترف به النفاة المعطلة وجعلوه عمدتهم في جحد علوه سبحانه ـ لزم أن يكون الرب تعالى في العلو ضرورة، وذلك لأن العالم إذا كان مستديرا فله جهتان حقيقيتان: العلو والسفل فقط. هـ.

ثم ذكر كلامه السابق في الطريق الرابع من طرق إثبات ذلك بالأدلة العقلية، ومراده ـ رحمه الله ـ إثبات فوقية الله تعالى وعلوه على خلقه وليس مراده أن إحاطة الله تعالى بخلقة تستلزم نسبته لجميع الجهات، فإنه لا يصح أن ينسب الله تعالى إلا إلى جهة العلو المطلق، بل لا يصح أصلا أن في خارج العالم جهات إلا جهتان فقط: العلو والسفل، كما ذكر ابن القيم نفسه في آخر كلامه الذي نقلناه قبل قليل.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة العرشية: من المعلوم باتفاق من يعلم هذا أن الأفلاك مستديرة كروية الشكل، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط ـ وهي المحدب ـ وأن الجهة السفلى هو المركز، وليس للأفلاك إلا جهتان العلو والسفل فقط.

وأما الجهات الست: فهي للحيوان، فإن له ست جوانب يؤم جهة فتكون أمامه، ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي رأسه وجهة تحاذي رجليه، وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون شمال هذا، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا، لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل. هـ.

وهذه الرسالة العرشية من أفضل ما كتب في بيان هذا الموضوع، وقد قال شيخ الإسلام في أولها: الله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السموات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. هـ.

وقال في آخرها: فقد ظهر أنه ـ على كل تقدير ـ لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو مع كونه على عرشه مباينا لخلقه ـ وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات كما يحيط بها إذا كانت في قبضته، أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها ـ فهو على التقديرين يكون فوقها مباينا لها، فقد تبين أنه على هذا التقدير في الخالق وعلى هذا التقدير في العرش لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة، وإنما تنشأ الشبهة في اعتقادين فاسدين:

أحدهما: أن يظن أن العرش إذا كان كريا والله فوقه وجب أن يكون الله كريا، ثم يعتقد أنه إذا كان كريا فيصح التوجه إلى ما هو كري ـ كالفلك التاسع ـ من جميع الجهات، وكل من هذين الاعتقادين خطأ وضلال، فإن الله مع كونه فوق العرش ومع القول بأن العرش كري ـ سواء كان هو التاسع أو غيره ـ لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها، كما لا يجوز أن يظن أنه مشابه لها في أقدارها ولا في صفاتها ـ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ـ بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك، وإنها عنده أصغر من الحمصة والفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة، بل الدرهم والدينار أو الكرة التي يلعب بها الصبيان ونحو ذلك في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته به أن يكون الإنسان كالفلك؟ والله ـ ولله المثل الأعلى ـ أعظم من أن يظن ذلك به، وإنما يظنه الذين: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}.

وكذلك اعتقادهم الثاني: وهو أن ما كان فلكا فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست خطأ باتفاق أهل العقل الذين يعلمون الهيئة، وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان، فقد تبين أن كل واحد من المقدمتين خطأ في العقل والشرع، وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات ـ سواء كان العرش هو الفلك التاسع أو غيره، سواء كان محيطا بالفلك كري الشكل أو كان فوقه من غير أن يكون كريا سواء كان الخالق - سبحانه - محيطا بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته، أو كان فوقها من جهة العلو منا التي تلي رءوسنا دون الجهة الأخرى، فعلى أي تقدير فرض كان كل من مقدمتي السؤال باطلة وكان الله تعالى إذا دعوناه إنما ندعوه بقصد العلو دون غيره، كما فطرنا على ذلك. هـ.

وقد فصل الكلام على ذلك ـ أيضا ـ في درء التعارض ـ خلال رده على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية.

وكذلك في بيان تلبيس الجهمية.

وختاما ننبه ـ السائل الكريم ـ على أن الألفاظ التي لم يأت الكتاب والسنة بنفيها ولا إثباتها، لم يتعرض لها السلف ـ لا نفيا ولا إثباتا ـ والقاعدة في ذلك أن يستفصل من قائلها، فإن أراد به مثبته معنى صحيحاً وافقناه على ذلك المعنى الصحيح، ولم نوافقه على استعمال ذلك اللفظ، وإلا فلا، والأولى الإعراض عن مثل هذا الألفاظ ـ على كل حال ـ وقد سبق تفصيل ذلك في الفتوى رقم: 120182، وما أحيل عليه فيها، وانظر لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 118323.

والله أعلم.