عنوان الفتوى : هل من المحظور على المسلم حب الدنيا ؟ وهل يقع بذلك في النفاق ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

توعد الله سبحانه وتعالى في سورة " النساء " المنافقين بالدرك الأسفل من النار ، ويقول الكثير من المحاضرين إن غالبية المنافقين يعتقدون أنهم مسلمون صالحون يريدون الآخرة لكنهم لا يريدون أن يعرضوا عن هذه الحياة أيضا ، وأنا لا أريد أن أدفع أكثر من الزكاة المفروضة والقليل من الصدقات في سبيل الله ، فهل من الأفضل لشخص مثلي أن يترك الإسلام وأن يتنصر لأنهم يتمتعون بالحياة أكثر وفى الآخرة ستكون عقوبتهم أقل من عقوبة المنافق ؟ وأنا لا يمكننى تخيل كوني ملحداً لأني متعلق بالله بشدة ، وسؤالي هو أنى أحب هذه الحياة كثيراً وقد حاولت لكني لم أتمكن من الإعراض عنها . وجزاكم الله خيراً .

مدة قراءة الإجابة : 11 دقائق

الحمد لله.


أولاً:
سبحان الله ! وهل الذي يحب الحياة الفانية يضحي بالحياة الخالدة ؟! وهل الذي يحب الحياة المليئة بالهموم والغموم يضحي بالحياة الخالية من ذلك كله ؟! وهل الذي يحب الحياة الدنيا لأن فيها الزوجة والأولاد والأقارب والمحبين يضحي بذلك كله في الحياة الأخروية - لأنه سيحال بينه وبينهم فيكونون هم في النعيم وهو في الجحيم - ؟! أنت لا تتخيل نفسك ملحداً ولا نصرانيّاً ونحن كذلك نرى رأيك ! لأن من يحب الحياة الدنيا من المسلمين لما فيها نعيم مباح وملذة حلال ، فإنه يعلم أن في الجنة ما لا يمكن مقارنته من ذلك مع ما في الدنيا ، فهو لا يمنع نفسه من مباحات الدنيا وملذاتها ، إلا لأجل نظرته إلى النعيم الأخروي الأبدي والذي فيه رؤية الله تعالى ولا يُنعم على أهل الجنة بمثل هذا النعيم العظيم ، فلذلك نحن لا نشك أن مثلك لا يمكن أن يترك الإسلام ويرتد ، لأنه لن يكون في نعيم لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وأن حياته ستكون ضنكاً وكذا آخرته ، وإياك أن تغتر بما تراه من سعادة ظاهرة على الكفار ، ولكن انظر إلى قلوبهم وصدورهم كيف هي ، فالسعادة سعادة القلب ولو كان صاحبها في شدة من العيش ، والشقاء شقاء القلب ولو كان صاحبه يعيش في قصر عظيم ، ودنيا واسعة ؛ قال تعالى ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى ) طه/ 124 .
واعلم أن المسلم الذي يعيش في دنياه في شدة من العيش وضيق في الرزق ، سينسى ذلك كله بغمسة يغمسها إياه ربه في جنته وسيقسم أنه لم ير بؤساً قط ! وأن الكافر المنعَّم في حياته الدنيا ، سينسى ذلك كله في غمسة يغمسها إياه ربه في جهنم ، وسيقسم أنه لم ير نعيماً قط ! هذه غمسة وفعلت ذلك ، فكيف حين تصير الجنة مأوى دائما للأول ، والنار مأوى دائما للآخر ؟! .
وهذا يجعلنا نؤكد على أنك لست ممن يرضى لنفسه أن ينعم في دنياه مؤقتاً ، ثم يحل عليه سخط الله وعذابه ، فيحيا حياة أبدية في سعير وذل ومهانة ، ولعلَّه قد تبين لك الآن أن ما جاءك من تفكير إنما هو من الشيطان ليصدَّك عن نعيم الدنيا والآخرة ، ولا نظن بمثلك أن يستجيب لذلك .

 

ثانياً:
ما سمعته في تعريف المنافق هو خطأ محض إما من القائل أو من فهمك له ، فليس ما ذكرتَ هو النفاق ولا أولئك هم المنافقون ، بل النفاق الذي يكون أصحابه في الدرك الأسفل من النار هم الذين انطوت قلوبهم على الكفر بالله ، وتكذيب رسله ، والإعراض عن شرعه ، لكنهم أظهروا الإسلام ليحموا دماءهم وأموالهم .
وانظر جواب السؤال رقم ( 153691 ) والأجوبة المحالة عليها فيه .

 

ثالثاً:
من قال لك إن الإسلام يدعو أهله ليعرضوا عن الدنيا بكلها ؟! بل هذا فهم خطأ منك للإسلام ، والله تعالى قد امتنَّ علينا بأنه خلق لنا ما في الأرض جميعاً وأحلَّه لنا لنستعمله ونهنأ به ، فمن يمنعك من الاستمتاع بالمباح من اللباس والطعام والشراب والسكنى والنكاح والسيارات وغير ذلك من المباحات ؟! قال تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) الأعراف/ 32 ، ولو أنك قرأتَ سورة " النحل " لرأيتَ فيها ما يذهلك مما ذكره الله تعالى فيها من نعمه الجليلة التي أباحها لعباده ، حتى إن هذه السورة تسمَّى سورة النِّعَم من كثرة ما ذكره الله تعالى فيها من نعمه المجملة والمفصلة التي خلقها الله لعباده وأباح لهم الاستمتاع بها ، وفيها يقول الله تعالى : ( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) النحل/ 18 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " والله تعالى ذكر في " سورة النحل " إنعامَه على عباده ، فذكر في أول السورة أصول النعم التي لا يعيش بنو آدم إلا بها ، وذكر في أثنائها تمام النعم التي لا يطيب عيشهم إلا بها ، فذكر في أولها الرزق الذي لا بد لهم منه ، وذكر ما يدفع البرد من الكسوة بقوله ( وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) ، ثم في أثناء السورة ذكر لهم المساكن والمنافع التي يسكنونها : مساكن الحاضرة والبادية ومساكن المسافرين فقال تعالى ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ) الآية ، ثم ذكر إنعامه بالظلال التي تقيهم الحر والبأس فقال ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ) إلى قوله ( كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 12 / 256 ) .
رابعاً:
هذا قارون كان يملك من الكنوز ما يعجز الرجال الأقوياء عن حمل مفاتحه ! وانظر ماذا قال له الناصحون تعلم حقيقة ما نطلب منك مع استمتاعك بالدنيا ، فقد نصحه أولئك بخمس نصائح : أن لا يبطر ويطغى بالنعمة ، وأن يستعمل تلك النعمة لنيل درجات الآخرة ، وأن يستمتع بما معه في الدنيا بما لا يضر آخرته ، وأن يُحسن إلى الناس كما أحسن الله إليه ، وأن لا يستعمل تلك النعمة في الفساد في الأرض ، وهذه – والله – نصائح غالية جامعة مانعة .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - : " ( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ ) ناصحين له محذرين له عن الطغيان ( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) أي : لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة وتفتخر بها وتلهيك عن الآخرة ، فإن اللّه لا يحب الفرحين بها المنكبين على محبتها .
( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ) أي : قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرك من الأموال ، فابتغ بها ما عند اللّه وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات وتحصيل اللذات .
( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) أي : لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعاً ، بل أنفق لآخرتك ، واستمتع بدنياك استمتاعا لا يثلم دينك ولا يضر بآخرتك .
( وَأَحْسِنْ ) إلى عباد اللّه ( كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) بهذه الأموال .
( وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ ) بالتكبر والعمل بمعاصي اللّه والاشتغال بالنعم عن المنعم ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) بل يعاقبهم على ذلك أشد العقوبة . " انتهى من " تفسير السعدي " ( ص 623 ) .
فنرجو منك مزيد تأمل في تلك النصائح ، وهو المطلوب مِن كل مَن أنعم الله تعالى ، وأما بخصوص الصدقات على الفقراء والمحتاجين فاعلم أنه لا يجب عليك في شرعنا المطهر غير زكاة مالك ، وقد يجب عليك الإنفاق على قريب فقير ، لكن من حيث المجمل ليس في المال حق سوى الزكاة ، فإذا أديت زكاة الفريضة كما تقول ، فقد أديت ما عليك ، وإذا تصدقت بشيء قليل كما تقول ، فقد أحسنت وتطوعت بنافلة من مالك .
وإن لكن لا يليق بالمسلم أن ينسى أن ما هو فيه من نعمة فإنما هي من الله ، وأن الله تعالى يعطي مُنفقاً خلَفاً ، وأن من أنفق على الناس أنفق الله عليه ، وكل ذلك ثابت بالكتاب والسنَّة الصحيحة ، وهو من الشكر العملي لنعمة المال ، ومن الجيد أن تنفق من مالك صدقات على فقراء ومحتاجين ، فنسأل الله أن يتقبل منك وأن يُخلفك خيراً ؛ لكن إذا قدر أنك أديت الفريضة وفقط ، ولم تتصدق بشيء زائد على ذلك ؛ فليس ذلك من النفاق ، بل ليس ذلك ذبنا تستحق عليه عقوبة أصلا .

خامساً:
المهم في ذلك كله أن تعلم أنه ليس من الدين أن يعرض المسلم عن الدنيا بالكلية ، بل المحذور هو التعلق بالدنيا تعلقّاً كليّاً ، والإعراض عن العمل للدار الآخرة ، وعدم العمل لما خُلق من أجله وهو إقامة الدين والعمل بالأوامر والبعد عن المنهيات ، وأما الاستمتاع بمباحات الدنيا وملذاتها الحلال فلا يمنع منها أحد ، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يُخبر عن نفسه إنه قد حُبِّب إليه من دنيا الناس : النساء والطِّيب ، وقد أنكر صلى الله عليه وسلم على النفر الذين أراد أحدهم أن يقوم الليل كله ولا يرقد وعلى الثاني الذي أراد أن يصوم فلا يفطر وعلى الثالث الذي أراد ترك التزوج ، وأخبر – صلى الله عليه وسلم – أنه يقوم وينام ، ويصوم ويفطر ، وأنه يتزوج النساء ، فهذا هديه صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الهدي ، فعلى المسلم أن يكون وسطاً في أمورها كلها ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه ، فلا يتعلق بالدنيا تعلقاً كليّاً ولا يتركها تركاً كليّاً .
وليس الزهد هو الإعراض عن الدنيا ، فقد كان الصحابة الكرام سادة الزهَّاد ولم يمنعهم ذلك من الاستمتاع بما أباحه الله لهم ، بل الصحيح في تعريف الزهد أنه : " ترك ما لا ينفع في الآخرة ".
ووانظر جواب السؤال رقم ( 131088 ) .
نسأل الله أن يشرح صدرك للحق وللعمل، وأن يُبعد عنك نزغات الشيطان ، وأن يوفقك لما فيه رضاه .

والله أعلم