عنوان الفتوى : علاج من لا يشعر بعظمة الله بالبراهين
ماحكم من لا يشعر بعظمة الله ولا يحس بوحوده مع العلم أنه كاره لهذا وما العلاج
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
أعتقد أن الأخ السائل يقصد بسؤاله الوسوسة التي يجدها المسلم -أحياناً- ويتعاظم أن يبوح بها، وإذا كان هذا هو المقصود فإنه قد وقع لبعض الصحابة رضي الله عنهم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إِنّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلّمَ بِهِ. قَالَ: "وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَان. وفي رواية "ذلك محض الإيمان".
قال النووي : "معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً.... " انتهى.
فهناك ثلاثة أمور الأول: الإعلان الصريح بالإيمان وجهة الوسوسة (فليقل آمنت بالله).
الثاني: الاستعاذة بالله والاعتصام به وطلب الثبات منه والإلحاح بدعاء "اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك".
الثالث: قطع الوسوسة والانشغال عنها، فإن الوسوسة لا ينفع معها الجدل، بل كلما تمادى بها الشخص كلما زادت حتى تفضي به إلى المهالك.
وما ذكرناه ينفع إذا بقي الأمر في حيز الوسوسة، أمَّا إذا تجاوز ذلك فيجب علاجه، وعلاجه في زيادة اليقين المورث خشية الله واستشعار عظمته وقُربه ومعيته. وزيادة اليقين تكون من ثلاث جهات، من جهة وسيلته وهي الأدلة فكلما تكاثرت الأدلة والبراهين على عظمة الله ووجوده وعلمه كلما كان اليقين أشد رسوخاً وأعمق أثراً في القلب، فلا تزلزله الشبهات ولاتمحوه الشهوات.
والجهة الثانية: ما يتعلق باليقين وهي القضايا المصُدًّق بها، فكلما كان اطلاع الشخص على تفاصيلها أكثر كان إيمانه بها أعظم، خذ مثلاً عظمة الله التي وردت في السؤال، من يقف على تفاصيل هذه العظمة ويتأمل فيها ليس كمن يؤمن بها إجمالاً، ولذلك كان رسولنا صلى الله عليه وسلم أشد الناس خشية لله لما يعلمه من عظمة الله، وهو يشير إلى ذلك بقوله: والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية . فبدأ بالعلم بالله، وقال صلى الله عليه وسلم : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.
وفي الحديث القدسي: أن الله يسأل الملائكة - وهو أعلم - ما يقول عبادي؟ فتقول الملائكة يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويُمجدونك، فيقول هل رأوني؟ فيقولون : لا ولله ما رأوك، فيقول: كيف لو رأوني ؟ يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً . متفق عليه
ونحن لم نر الله عياناً في الدنيا، ولكننا نرى أثر قدرته في الليل إذا سجى، وفي النهار إذا تجلى، وفي النجم إذا هوى، وفي الرعد إذا قصف، وفي البرق إذا خطف، وفي القمر إذا خسف، في الحيَّ يخرج من الميت وفي الميت يخرج من الحي:يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم:19]، وقال تعالى:هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3].
وكيف لا نحس بوجوده؟ وهو أقرب إلى عبده من حبل الوريد آخذ بناصيته مصدق لسمعه وبصره مقلب لحركات قلبه وخطرات نفسه مدبر غذاء روحه وجسده :الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ*وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ*وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ*وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء،78-81].
إذاً بقدر ما تتأمل في عظمة ملك الله الكبير العظيم، تتمثل عظمة ذاته وصفاته، فينعكس هذا التعظيم والعرفان على علاقتك معه.
فوا عجبا كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آيــــــــــة تدل على أنـه الواحـد
أما الجهة الثالثة لزيادة اليقين: فهي جهة ثمرة هذه البراهين والأدلة والاطلاع على تفاصيلها ودقائقها، وثمرة ذلك العمل الذي هو مقتضى العلم، والله تعالى عندما ذكر التفكر في قوله:الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ إلى إن قال تعالى:رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا إلى أن قال:فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ فذكر ربنا الاستجابة لصوت الإيمان، وأنه يجازي على العمل، فالفكرة النظرية تظل عديمة الفائدة ضعيفة الأثر ما لم تتحول إلى عمل، وكلما تكرر العمل بها كلما ازدادت قوة في النفس وثباتاً في العقل :وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66]
وعلى ذلك نقول: كلما ازداد العبد طاعة لله كلما زاد إيمانه ويقينه، وكلما كثرت مخالفاته لأوامر الله كلما قل يقينه وضعف.
والله أعلم.