عنوان الفتوى : البدعة.. تعريفها.. مراتبها
أريد أن أعرف ماهي المحدثة أي البدعة التي تؤدي إلى الضلالة وجزاؤها النار؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أولا أن بعض العلماء قد قسموا البدعة إلى بدعة حسنة وأخرى سيئة، وقالوا إن البدعة تجري فيها الأحكام التكليفية الخمسة، وهذا القول مع جلالة قائله وعظم منزلته ليس بصواب، لمخالفته عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: كل بدعة ضلالة ـ وما مثلوا به للبدعة الحسنة ليس داخلا في حد البدعة المذمومة أصلا، وهذا كلام نفيس للشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ننقله للفائدة، قال رحمه الله: فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما قال: كل بدعة ضلالة ـ كان يدري ما يقول، وكان يدري معنى ما يقول، وقد صدر هذا القول منه عن كمال نصح للأمة، وإذا تم في الكلام هذه الأمور الثلاثة كمال النصح والإرادة وكمال البيان والفصاحة، وكمال العلم والمعرفة، دل ذلك على أن الكلام يراد به ما يدل عليه من المعنى، أفبعد هذه الكلية يصح أن نقسم البدعة إلى أقسام ثلاثة، أو إلى أقسام خمسة؟ أبدا، هذا لا يصح، وما ادعاه العلماء من أن هناك بدعة حسنة، فلا تخلو من حالين:
1ـ أن لا تكون بدعة لكن يظنها بدعة.
2ـ أن تكون بدعة فهي سيئة لكن لا يعلم عن سوئها.
فكل ما ادعي أنه بدعة حسنة فالجواب عنه بهذا، وعلى هذا فلا مدخل لأهل البدع في أن يجعلوا من بدعهم بدعة حسنة وفي يدنا هذا السيف الصارم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل بدعة ضلالة ـ إن هذا السيف الصارم إنما صنع في مصانع النبوة والرسالة، إنه لم يصنع في مصانع مضطربة، لكنه صنع في مصانع النبوة، وصاغه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الصياغة البليغة فلا يمكن لمن بيده مثل هذا السيف الصارم أن يقابله أحد ببدعة يقول: إنها حسنة، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: كل بدعة ضلالة. انتهى.
وانظر للفائدة الفتويين رقم: 132845، ورقم: 55679.
ثم اعلم أن البدعة الشرعية المذمومة التي يستحق فاعلها الذم والتي يصدق فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم: وكل بدعة ضلالة ـ قد اختلفت عبارات العلماء في تعريفها وإن كان مؤداها واحدا، وهاك بعض ما قيل في حد البدعة المذمومة، قال الشاطبي في الاعتصام: فَالْبِدْعَةُ إِذَنْ عِبَارَةٌ عَنْ: طَرِيقَةٍ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٍ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. انتهى.
وفي المنثور للزركشي: الْبِدْعَةُ قَالَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ: هِيَ فِي اللُّغَةِ إحْدَاثُ سُنَّةٍ لَمْ تَكُنْ، وَتَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَمَوْضُوعَةٌ لِلْحَادِثِ الْمَذْمُومِ، وَإِذَا أُرِيدَ الْمَمْدُوحُ قُيِّدَتْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَجَازًا شَرْعِيًّا حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، وَفِي الْحَدِيثِ: كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ـ وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ الْمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ أَثَرًا أَوْ إجْمَاعًا، فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلَالَةُ، وَالثَّانِي: مَا أُحْدِثَ مِنْ الْخَيْرِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فِي قِيَامِ ـ رَمَضَانَ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هِيَ ـ يَعْنِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ، وَإِذَا كَانَتْ لَيْسَ فِيهَا رَدٌّ لِمَا مَضَى. انْتَهَى.
وجاء في قواعد الفقه للمجددي: الْبِدْعَة هِيَ الْأَمر الْمُحدث الَّذِي لم يكن عَلَيْهِ الصَّحَابَة والتابعون وَلم يكن مِمَّا اقْتَضَاهُ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ. انتهى.
على أننا إذ عرفناك حد البدعة المتعرض فاعلها للوعيد والمستحق للذم ننبهك على أن البدع ليست على حد سواء، وقد بين الشاطبي ـ رحمه الله ـ هذا المعنى فقال في الاعتصام: الْبِدَع إِذَا تُؤُمِّلَ مَعْقُولُهَا وُجِدَتْ رُتْبَتُهَا مُتَفَاوِتَةً، فَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ، كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا { الأنعام: 136} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ { الأنعام: 139} وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَتْ بِكُفْرٍ أَوْ يُخْتَلَفُ، هَلْ هِيَ كُفْرٌ أَمْ لَا؟ كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَيُتَّفَقُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَتْ بِكُفْرٍ كَبِدْعَةِ التَّبَتُّل وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَالْخِصَاءِ بِقَصْدِ قَطْعِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ، ومنها ما هو مكروه كالاجتماع للدعاء عشية عرفة فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، هُوَ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، أَوِ التَّحْرِيمُ فَقَطْ. انتهى بتصرف.
والله أعلم.