عنوان الفتوى : لا تعارض بين الإيمان بالقدر والأخذ بالأسباب
تعبت من حياتي وأريد أن أفهم ـ بارك الله فيكم ـ كل شيء مكتوب على ابن آدم من خير وشر، فلماذا أتعب نفسي مادام كل شيء مكتوب لي؟ وأشعر بالضياع في أمور ديني ولا أفهمه، وأشعر أنه متاهات، كلما أردت أن أقرأ في أمور الدين، فهل هذا من أعراض المس؟ لأني بالفعل لم أعد أدري لماذا أعيش؟ ولماذا أصلي ولأجل ماذا؟ مادمت أدور في دائرة مفرغة، وأعيش في سجن لا مفر ولا مخرج، لا تعليم وفقت فيه، ولا زوج رزقت به، وإن وجد فهو من خارج القبيلة والتقاليد تمنع الزواج بمن هو من خارج القبيلة، ولا جمال أتمتع به، وفاشلة في كل عمل أقوم به، وأهلي هم سبب شقائي وضياع عمري وجعلي إنسانة غير سوية نفسيا، فلماذا أتعب نفسي وكل شيء مكتوب؟ أركض وراء أحلام لن تتحقق مادام كل شيء مكتوب علي.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يمكن الجزم بأن هذا من المس، ولكن المسلم يتعين عليه مع إيمانه بالقدر أن يحرص على ما ينفعه، ويستعين بالله في أموره، ويبذل الأسباب المشروعة في تحقيق مطالبه، لأنه متعبد بذلك من قبل الله تعالى، وبذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا؟ ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان. رواه مسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر. رواه الترمذي وحسنه وحسنه الألباني.
وروى الحاكم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة. والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع.
وبذلك يجمع المؤمن بين الحسنيين: بين الحرص على ما ينفعه مع الاستعانة بالله، وبين علمه أن ما سيكون إنما هو بقدر الله تعالى، وليس له أن يترك الأعمال اتكالا على ما سبق به القدر، بل عليه أن يجد ويجتهد ويأخذ بالاحتياطات وأسباب النجاح، ويبتعد عن أسباب الفشل والخسارة، فمن جد وجد، ومن زرع حصد، فعلاج الفشل أياً كان نوعه يكون بمراجعة الحال مع الله بالتوبة والاستغفار، ثم الاستعانة بالله وحسن الظن به وصدق التوكل عليه، ثم لزوم تقواه سبحانه والاستقامة على شريعته، ثم الأخذ بالأسباب وعدم العجز، وليوقن أن كل ما يجري في هذا الكون مهما صغر أو عظم هو بقضاء الله تعالى وقدره، وسبق علمه به في سابق أزله، كما قال الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {القمر: 49 }.
وقال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ { الحديد:22}.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ـ إلى آخر الحديث.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة.
وفي سنن أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، قال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة.
وفي حديث مسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس.
وفي صحيح مسلم أن سراقة بن مالك قال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما نستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر، وفي رواية: كل عامل ميسر لعمله.
قال النووي في شرح مسلم: وفي هذه الأحاديث النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره.
ويقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أيضاً في الفتاوى: جميع الحوادث كائنة بقضاء الله وقدره، وقد أمرنا الله سبحانه أن نزيل الشر بالخير بحسب الإمكان، ونزيل الكفر بالإيمان والبدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة من أنفسنا ومن عندنا، فكل من كفر أو فسق أو عصى فعليه أن يتوب وإن كان ذلك بقدر الله، وعليه أن يأمر غيره بالمعروف وينهاه عن المنكر بحسب الإمكان، ويجاهد في سبيل الله، وإن كان ما يعمله من المنكر والكفر والفسوق والعصيان بقدر الله، فليس للإنسان أن يدع السعي فيما ينفعه الله به متكلا على القدر، بل يفعل ما أمر الله ورسوله، كما روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ـ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرص على ما ينفعه، والذي ينفعه يحتاج إلى منازعة شياطين الإنس والجن، ودفع ما قدر من الشر بما قدره الله من الخير، وعليه مع ذلك أن يستعين بالله، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن يكون عمله خالصاً لله. انتهى.
ولا يعني هذا عدم التوكل فإن التوكل على الله مطلوب في كل حال، كما قال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ { المائدة:23}.
وقال الله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ {الفرقان:58}.
وقال الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ { الطلاق:3}.
وهذا التوكل عرفه العلماء بمباشرة الأسباب مع استشعار أنها لا تؤثر إلا بإذن الله، وعليه فالاعتماد الحقيقي في إنجاح المهمة على الله وحده، ولا يمنع ذلك أن تفعل ما تستطيع من الأسباب، فبذل السبب لا يناقض التوكل إذا كنت معتمداً على الله أثناء بذل السبب كما في الحديث: قيدها وتوكل. رواه الحاكم وجود إسناده الذهبي وحسنه الألباني. وفي رواية: اعقلها وتوكل. رواه ابن حبان والترمذي وحسنه الألباني.
ويدل لهذا تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فقد بذل أسباباً محكمة، ولما وقف المشركون على فم الغار قال أبو بكر لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما. رواه البخاري ومسلم.
والله أعلم.