عنوان الفتوى : الاعتراض على أقضية الله من ظلم النفس وجهلها
لدي سؤال محتارة فيه جدا، وأتمنى أن لا تصفوني بالجاحدة. سؤالي من شقين: الأول: أن الدنيا ليس فيها عدل بين البشر، فمنهم من يتوفر لديه كل شيء، فيسهل عليه أمور الدنيا وأمور الآخرة، ومنهم من لديه بعض الأشياء، ومنهم من ليس لديه شيء، فيصاب بالهم والحزن، وتصعب عليه أمور الدنيا والآخرة، ويكونون مطالبين كغيرهم بكل الأمور، ولأوضح سؤالي أكثر: بعض الأشخاص تكون أمورهم ميسرة جدا، فإذا أردن الزواج تقدم لهن أفضل الخطاب، ويكون لديهن أفضل الأزواج، ويكون الناس وكأنهم مسخرون لخدمتهم بكل الأمور المادية والمعنوية، ورغم أنهم قد لا يكونون أشخاصا جيدين، وأمورهم المادية إذا لم تكن جيدة فهي ميسرة جدا. وإلخ من الأمور الميسرة في الدنيا، وكما تعلمون السعادة أو على الأقل جزء منها مطلوب حتى يقوم الإنسان بالعبادة بشكل أفضل. وأشخاص نيتهم طيبة، أمورهم من صغيرها إلى كبيرها معسرة جدا( والله العظيم إني لا أبالغ ) ويدعون الله لأوقات طويلة، ويبذلون الجهد لكي تتحقق أمورهم دون جدوى. أما الشق الثاني: أن المسلم يجب أن يدعو الله وهو موقن بالإجابة، وحتى لو استمر هذا الأمر عقودا من الزمن. وسؤالي هو أن النبي محمد(صلى الله عليه وسلم) أخبرنا في حديث معناه: أن هذا الزمن القابض على دينه كالقابض على الجمر. فكيف يتحمل الإنسان أن يستمر بالدعاء لهذه السنوات دون أن يتغير وضعه، وأن يظل موقنا بالإجابة، وكما تعلمون أن طبيعة الإنسان أنه ملول. فكيف الحال إذا استمر العسر مع كل هذا الدعاء والعمل، بالإضافة إلى خيبات الأمل الكثيرة في حياة الإنسان، ولا يوجد أحد إلى جانبه يأخذ بيديه ويساعده. (أعود هنا إلى الشق الأول) ورغم ذلك الحمد لله لم أتجه لانحدار لكنني بدأت أشعر بالحسد، وأخاف من الضغط النفسي الشديد أن أتجه بالاتجاه الخاطئ. فماذا أفعل غير الدعاء. وأرجوكم ادعو لي أن يفرج الله همومي.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلمي أيتها الأخت هداك الله أن الله عز وجل حكيم يضع الأشياء في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، فهو لا يقدر شيئا عبثا، بل يقدره لحكمة بالغة قضاها يستوجب الحمد على اقتضائها، وهو سبحانه أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، غير أن عقول البشر تعجز عن إدراك سر حكمته في جميع أقضيته، فتعترض بجهلها وظلمها على أحكامه سبحانه وبحمده. ولقد صرحت بعظيم من القول وتجاسرت على اتهام الرب تعالى في أقضيته وهو الحكم العدل، وهذا يستوجب منك توبة نصوحا، فإن هذا الظن بالله تعالى أنه لا يعطي من يستحق ما يستحق هو من ظن الجاهلية به سبحانه وبحمده، وهو تعالى منزه عن هذه الظنون الباطلة، بل اعتقاد الشخص هذا وظنه بالله هذا الظن السيئ وإحالته باللوم على أقدار ربه لا على نفسه الأمارة بالسوء التي ما أتي إلا من قبلها أدعى شيء لتعسير أموره. فلو أنك أحسنت الظن بربك، وآمنت بحكمته البالغة، وبعدله المطلق، وأنه لا يظلم الناس شيئا، لكان لك من إيمانك عاصم من هذه الحيرة وذلك التخبط. وخذي هذا الكلام البديع للعلامة ابن القيم رحمه الله ففيه تشخيص الداء وبيان الدواء، يقول عليه الرحمة في زاد المعاد: فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته لرأيت عنده تعتبا على القدر وملامة له واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك ( فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا ) فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله تعالى وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام والحكمة التامة المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال من كل وجه وصفاته كذلك وأفعاله كذلك كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل وأسماؤه كلها حسنى. انتهى.
ثم اعلمي أن تيسير أمور الدنيا ليس علامة على الإكرام، وتعسيرها ليس أمارة الإهانة، بل قد نفى الله هذا الوهم في كتابه فقال جل اسمه: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن* كلا. يقول ابن القيم في تفسير (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه) الآيتين. أي ليس كل من أنعمت عليه ووسعت عليه رزقه أكون قد أكرمته، وليس كل من ابتليته وضيقت عليه رزقه أكون قد أهنته، بل أبتلي هذا بالنعم، وأكرم هذا بالابتلاء، وفي جامع الترمذي عنه: إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب. وقال بعض السلف: رب مستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم، ورب مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم، ورب مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم. انتهى.
فالسعادة الحقيقية إنما تنال بطاعة الله تعالى والإقبال بالقلب عليه، والرضا بحكمه والتسليم لقضائه، والعلم بأن ما يقدره للعبد هو المصلحة له، وإن خفيت عليه هذه المصلحة لقصور عقله، وأن يعلم العبد أنه ليس له على ربه حق، وأن ما منَّ به عليه من النعم فهو محض فضله، وما منعه من العطاء أو أنزل به من البلاء فهو عدله، فقضاؤه سبحانه دائر بين الفضل والعدل. وما أكثر من طويت عنهم الدنيا ولم ينالوا منها حظا ومع ذا كانوا من أعبد الخلق لله وأسعدهم بتلك العبادة، بل كانوا وهم في الدنيا كأنهم في جنة حاضرة مع شدة العيش وخلاف الرفاهية لما وقر في قلوبهم من معاني الإيمان.
فعلاج ما تعانين منه من الحيرة أن توثقي صلتك بربك، وأن تجتهدي في عبادته والإقبال عليه، فإذا شعر قلبك بلذة الأنس بالله ومناجاته والإقبال عليه والإنابة إليه هان عليك ما يكون في الدنيا من بلاء إن وجد، بل كنت في سعادة وحياة طيبة لا تنقطع بإذن الله؛ كما قال تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. وهذه الحياة الطيبة تكون لهم في دورهم الثلاث في الدنيا والبرزخ والآخرة.
وأما دعاء الله تعالى فإنه من أجل العبادات، والله تعالى يستجيب دعاء العبد ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي فيستحسر حينئذ ويدع الدعاء، والداعي لا يعدم بدعائه خيرا، فهو إما أن يستجاب دعاؤه إن كان فيه الخير له، وإما أن يصرف الله عنه من السوء مثله، وإما أن يدخر له يوم القيامة، فاجتهدي في الدعاء بإخلاص وصدق ولا تستحسري وتملي، فإن هذا الملل الذي يصيب الإنسان فيدع الدعاء هو الذي يفرق به بين الصادق وغيره، فمن صدق في إقباله على الله لم يستسلم لهذا الملل، ومن كان بالضد من ذلك أسرع إليه فترك ما هو نافع له من دعاء ربه تعالى. وقد تبين لك بما قدمناه علاج مشكلتك، وأنه يكمن في عودة حقيقية إلى الله تعالى واعتصام بحبله وتقوية للإيمان به وتوثيق للصلة به وعلم نافع تندفع به شبهات الشيطان ويزول به وسواسه.
والله أعلم.