عنوان الفتوى : مواقف من شجاعة أبي بكر الصديق ورباطة جأشه رضي الله عنه
شخص يشكك في شجاعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويتهمه بعدم قتل أي مشرك طوال حياته ! ماذا نرد عليه؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن شجاعة الصديق رضي الله عنه معلومة من خلال سيرته ومواقفه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي خلافته رضي الله عنه، إذا نظر إليه بعين الحقيقة والإنصاف، وليس بعين السخط والسب والطعن، فهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار والهجرة، حيث كانا مطلب المشركين يومئذ لأجل القضاء عليهما لو قدروا على ذلك، وهو رفيقه أيضا يوم بدر في العريش، وهو من ثبت الله به الأمة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما ارتد بعض العرب ومنعوا الزكاة وقف رضي الله عنه تلك المواقف المعروفة، وأقنع من شكك في موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأصر على قتال المرتدين حتى اقتنع الصحابة رضي الله عنهم برأيه وصدروا عنه.
ثم إن الشجاعة ليست منحصرة في القتال باليد، كما أن كثرة قتل المشركين ليست معيارا للشجاعة والفضل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم، وهو أشجع الناس على الإطلاق لم يقتل بيده الشريفة إلا مشركا واحدا، وهو أبي بن خلف الجمحي، كما هو معلوم في كتب السير. فهل يمكن القول إن بعض الصحابة الذين قتلوا العشرات كانوا أشجع منه صلى الله عليه وسلم ؟
ومن المواقف الدالة على شجاعة الصديق ورباطة جأشه رضي الله عنه أنه لما سمع نبأ موت النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال : بأبي أنت وأمي ! والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي عليك فقد متها، وخرج أبو بكر وعمر يتكلم فقال : اجلس يا عمر. فقام أبو بكر في الناس خطيبا بعد أن حمد الله وأثنى عليه فقال :
أما بعد : فإن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات , ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت , ثم تلا هذه الآية : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ {آل عمران:144}.
قال القرطبي رحمه الله تعالى : هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته , فإن الشجاعة والجرأة حدهما ثبوت القلب عن حلول المصائب , ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم ... فظهرت عنده شجاعته وعلمه , قال الناس : لم يمت رسول الله عليه وسلم , منهم عمر , وخرس عثمان , واستخفى علي , واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسنح. انتهى .
وقال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية : فالشجاعة المطلوبة من الإمام لم تكن في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل منها في أبي بكر ثم عمر، وأما القتل فلا ريب أن غير علي من الصحابة قتل من الكفار أكثر مما قتل علي، فالبراء بن مالك أخو أنس قتل مائة مبارزة غير من شورك في دمه .
وأما خالد بن الوليد فلا يحصي عدد من قتله إلا الله، وقد انكسر في يده في غزوة مؤتة تسعة أسياف، ولا ريب أنه قتل أضعاف ما قتله علي .
وكان لأبي بكر مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية وهي قوة يقينية بالله عز وجل، وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين، وهذه الشجاعة لا تحصل بكل من كان قوي القلب، لكن هذه تزيد بزيادة الإيمان واليقين، ومما ينبغي أن يعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله، وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله كانت إما وبالا عليه إن استعملها بها صاحبها على طاعة الشيطان، وإما غير نافعة له إن استعملها فيما لا يقربه إلى الله تعالى ... وإذا كان كذلك فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة .
قال الله تعالى : وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا {الفرقان:51-52}. فأمره الله سبحانه أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادا كبيرا وهذه السورة مكية نزلت بمكة قبل أن يهاجر النبي وقبل أن يؤمر بالقتال ولم يؤذن له، وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال، وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي، ويحتاج إلى شجاعة القلب وإلى القتال باليد، وهو الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما مقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن . انتهى . وانظر الفتوى رقم : 131102.
والله أعلم.