عنوان الفتوى : الداعية عليه أن يراعي أحوال الناس والوقت والمكان المناسبين
بعض الناس يدعون في وسائل المواصلات المختلطة ويقومون بإلقاء المواعظ والخطب وقد لا يعجب ذلك بعض الناس مما يتسبب في الشجار، فهل ذلك جائز؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالأصل أنه لا يمنع داع من دعوته إلى الله في أي مكان تيسر، وفي أي وقت تيسر، وإن كان هناك من الناس من لا يعجبه ذلك، فمنهم من يعجبه ذلك وينتفع به، قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ { فصلت: 33}.
وليس معنى هذا أن يهدر الداعي إلى الله مراعاة الحكمة في دعوته للناس، فقد قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ { النحل: 125}.
فينبغي أن يراعي أحوال الناس في اختيار الوقت والموضوع وكيفية العرض وأسلوبه، والمتأمل لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته في دعوته المباركة يجد منه الحرص كله على هداية الناس ونصحهم ووعظهم وانتهاز كل فرصة لذلك ليلا ونهارا، سرا وجهارا، سفرا وحضرا، سلما وحربا، كبارا وصغارا، رجالا ونساء مع محبيه ومع أعدائه ومحاربيه، ومع ذلك فقد كان صلوات الله وسلامه عليه يراعي أحوال أصحابه ويلتزم معهم مقتضى الحكمة، وكذلك كان أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ من بعده، فعن أبي وائل قال: كان عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ يُذكِّر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا. متفق عليه.
قال النووي: وفي هذا الحديث: الاقتصاد في الموعظة، لئلا تملها القلوب فيفوت مقصودها. اهـ.
وعن ابن عباس قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرار، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه. رواه البخاري.
وقال البغوي في شرح السنة: قال عبد الله بن مسعود: حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم، وأقبلت عليك قلوبهم فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم، قيل: وما علامة ذلك؟ قال: إذا التفت بعضهم إلى بعض ورأيتهم يتثاءبون فلا تحدثهم، قوله: حدجوك بأبصارهم ـ أي: رموك بها، يريد حدثهم ما داموا يشتهون حديثك، فإذا أعرضوا عنك فاسكت، وقالت عائشة لعبيد بن عمير: ألم أحدث أنك تجلس ويجلس إليك؟ قال: بلى يا أم المؤمنين، قالت: فإياك وإملال الناس وتقنيطهم، وروي أنها قالت له: أقصص يوما واترك يوما، لا تمل الناس. اهـ.
وقال ابن الجوزي في كشف المشكل: اعلم أن كل شيء يكثر على النفس تمله، خصوصا المواعظ التي لاحظ للطبع فيها إلا أن يكون مجرد السماع. اهـ.
والمقصود أن الداعي وإن كان ينبغي أن يحرص في كل فرصة مناسبة أن يذكر الناس ويعظهم، إلا إنه لابد أن يكون حكيما فيراعي أحوال الناس، والوعظ في وسائل الموصلات مقبول من حيث المبدأ، وإن كانت مختلطة، إلا أن الكم والكيف والوقت والحال أمور ينبغي مراعاتها، فلا يغلق الباب بالكلية، ولا يفتح دون ضابط، وخير الأمور أواسطها، فيتكلم أحيانا ويسكت في أخرى بحسب الحال، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 122291.
والله أعلم.