عنوان الفتوى : هل يجوز فعل عبادات وقُرَب كالصوم والصدقة شكراً لله تعالى على نِعَمه ؟
ماحكم صوم يوم شكراً لله ؟ وهل هو واجب أم مستحب ؟ .
الحمد لله.
قال شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - :
مذهب أهل السنة : أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل .
" مجموع الفتاوى " ( 11 / 135 ) .
وفي هذا النقل بيان لصريح لمذهب أهل السنَّة في " الشكر " وأن شكر الله تعالى ليس فقط في القلب واللسان بل والعمل أيضاً ، بل هو أعلى أنواع الشكر .
قال الله تعالى : ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) سبأ/13
قال ابن كثير رحمه الله :
" أي : وقلنا لهم اعملوا شكرًا على ما أنعم به عليكم في الدنيا والدين .
وشكرًا : مصدر من غير الفعل ، أو أنه مفعول له ؛ وعلى التقديرين : فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول وبالنية ، كما قال:
أفَادَتْكُمُ النّعْمَاء منِّي ثَلاثةً ... يدِي، ولَسَاني، وَالضَّمير المُحَجَّبَا
قال أبو عبد الرحمن الحُبلي : الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله شكر. وأفضل الشكر الحمد. رواه ابن جرير.
وروى هو وابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القُرَظي قال: الشكر تقوى الله والعمل الصالح." انتهى من "تفسير ابن كثير" (6/500) ، وينظر : "تفسير السعدي" (676) .
وقد تأملنا في أحكام الشرع فوجدنا عبادات كثيرة وقرباً متعددة قد شرعها الله تعالى لعباده شكراً له على نعمه العظيمة وآلائه الجليلة ، ومن ذلك :
1. سجود الشكر :
قال ابن القيِّم – رحمه الله - :
وكان مِن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهدي أصحابه سجودُ الشكر عند تجدُّد نِعمة تسُرُّ أو اندفاع نِقمة ، كما في " المسند " عن أبي بكرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أتاه أمرٌ يَسُرُّه خرَّ لله سَاجِداً شُكْراً لله تَعَالى .
وذكر ابنُ ماجه عن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُشِّرَ بحَاجَةٍ فخَرَّ للّه سَاجِداً .
" زاد المعاد في هدي خير العباد " ( 1 / 360 ) .
2. صلاة قيام الليل :
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ ( أَفَلَا أَكُونَ عَبْدًا شَكُوراً ) .
رواه البخاري ( 4557 ) ومسلم ( 2820 ) .
قال المباركفوري – رحمه الله - :
قال ابن حجر المكي : قد ظن من سأل عن سبب تحمله المشقة في العبادة أن سببها إما خوف الذنب أو رجاء المغفرة ، فأفادهم أن لها سبباً آخر أتم وأكمل وهو : الشكر على التأهل لها مع المغفرة وإجزال النعمة انتهى .
( أفلا أكون عبداً شكوراً ) أي : بنعمة الله عليَّ بغفران ذنوبي وسائر ما أنعم الله عليَّ .
" تحفة الأحوذي " ( 2 / 382 ) .
3. صوم عاشوراء :
قال ابن القيِّم – رحمه الله - :
فلما قَدِمَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وجدهم يُعظِّمون ذلك اليوم ويصومونه ، فسألهم عنه ، فقالوا : هو اليومُ الذى نجَّى الله فيه موسى وقومَه من فرعون ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نحن أحقُّ منكم بموسى ) ، فصامه وأمر بصيامه تقريراً لتعظيمه وتأكيداً ، وأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه وأُمَّتَه أحقُّ بموسى من اليهود ، فإذا صامه موسى شُكراً للَّه : كنَّا أحقَّ أن نقتدى به من اليهود ، لا سيما إذا قلنا : شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يُخَالِفْهُ شَرْعُنَا.
" زاد المعاد في هدي خير العباد " ( 2 / 70 ، 71 ) .
4. صدقة الفِطر :
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - :
ما المقصود بزكاة الفطر ؟ وهل لها سبب ؟ .
فأجاب :
المقصود بزكاة الفطر : صاع من طعام يخرجه الإنسان عند انتهاء رمضان ، وسببها : إظهار شكر نعمة الله تعالى على العبد للفطر من رمضان وإكماله ، ولهذا سُميت " صدقة الفطر " ، أو " زكاة الفطر " ؛ لأنها تنسب إليه ، هذا سببها الشرعي .
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " ( 18 / 257 ) .
5. ذبح الحاج هدي التمتع :
وقد سمِّي هذا الدم " دم شكران " .
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - :
أنا شخص مقيم في المملكة وأريد أن أحج مفرداً ، الهدي الذي يكون للقارن والمتمتع هل هو فضيلة أم يكون جبراً لخلل ؟ وهل عليَّ هدي ؟ .
فأجاب :
هو فضيلة ، وهو من باب الشكر لله ؛ لأن المتمتع والقارن حصل لهما نسكان في سفر واحد فكان من شكر نعمة الله عليهما أن يذبحا هدياً ، والمفرد ليس عليه هدي ، لكن التمتع مع الهدي أفضل .
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " ( 24 / 172 ) .
6. العقيقة :
قال ابن القيِّم – رحمه الله - :
فالذبيحة عن الولد فيها معنى القُربان والشكران والفداء والصدقة وإطعام الطعام عند حوادث السرور العظام شكراً لله وإظهار لنعمته التي هي غاية المقصود من النكاح .
" تحفة المودود بأحكام المولود " ( ص 70 ) .
وبعد :
فهذا بعض ما تيسر لنا الوقوف عليه من عبادات وقرَب شُرعت ابتداء شكراً لله تعالى ، ومنه نستفيد أنه يجوز أن يشكر العبد ربَّه تعالى بعبادة من مثل ما سبق أو غيرها ، وقد رأينا ذلك في فعل الصحابة رضي الله عنهم ، وأقرَّهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك :
أ. تصدق كعب بن مالك وأبي لبابة بماليهما شكراً لربِّهما تعالى على قبوله توبتهما .
عن كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) قُلْتُ : فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ .
رواه البخاري ( 2606 ) ومسلم ( 2769 ) .
وقال أبو لبابة بن عبد المنذر للنبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً قَالَ ( يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ ) .
رواه أبو داود ( 3319 ) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
قال ابن القيم – رحمه الله - :
وقول كعب : " يا رسول الله إن من توبتى أن أنخلع من مالى " : دليل على استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال .
" زاد المعاد في هدي خير العباد " ( 3 / 585 ، 586 ) .
وقال – رحمه الله - :
فإن الحديثَ ليس فيه دليل على أن كعباً وأبا لبابة نذرا نذراً منجَّزاً ، وإنما قالا : إن مِن توبتنا أن ننخلِعَ مِن أموالنا ، وهذا ليس بصريح فى النذر ، وإنما فيه العزمُ على الصدقة بأموالهما شكراً لله على قبول توبتهما ، فأخبر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بعضَ المال يُجزئ من ذلك ، ولا يحتاجان إلى إخراجه كله ، وهذا كما قال لسعد وقد استأذنه أن يُوصِىَ بماله كلِّه فأذن له فى قدر الثُلُث .
" زاد المعاد " ( 3 / 588 ) .
ب. عتق أبي هريرة لعبدٍ له شكراً لربه أن وصل للنبي صلى الله عليه وسلم :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ :
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا *** عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ
قَالَ : وَأَبَقَ مِنِّي غُلَامٌ لِي فِي الطَّرِيقِ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعْتُهُ فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الْغُلَامُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا غُلَامُكَ ) فَقُلْتُ : هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ ، فَأَعْتَقْتُهُ .
رواه البخاري ( 2394 ) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
وفي الحديث استحباب العتق عند بلوغ الغرض والنجاة من المخاوف .
" فتح الباري " ( 5 / 163 ) .
وعليه :
فلا حرج من التصدق أو العمرة أو الصوم أو الصلاة شكراً لله تعالى على من أنعم به على عبده من نعمة ، ودفع عنه من نقمة ، والأفضل أن يباشر العبد بسجدة شكر عند تلقيه خبر النعمة ، ثم يأتي بعد ذلك بما شاء من العبادات والقرَب المشروعة ، وليس كل ذلك على سبيل الوجوب ، بل هو مستحب ، وهذه طائفة من أقوال العلماء في ذلك :
أ. قال ابن رجب الحنبلي – في بيان درجات الشكر - :
الدرجة الثانية من الشكر : الشكر المستحبُّ ، وهو أنْ يعملَ العبدُ بعد أداءِ الفرائض ، واجتنابِ المحارم بنوافل الطَّاعات ، وهذه درجةُ السَّابقين المقرَّبين ، وهي التي أرشد إليها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث التي سبق ذكرُها ، وكذلك كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يجتهد في الصَّلاة ، ويقوم حتَّى تتفطَّر قدماه ، فإذا قيل له : أتفعلُ هذا وقد غَفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : ( أفلا أكونُ عبداً شكوراً ) .
" جامع العلوم والحكم " ( 1 / 246 ) .
ب. وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – في شرح حديث ( أفلا أكونُ عبداً شكوراً ) - :
وفي هذا دليل على أن الشكر هو القيام بطاعة الله ، وأن الإنسان كلما ازداد في طاعة ربه عز وجل فقد ازداد شكراً لله عز وجل ، وليس الشكر بأن يقول الإنسان بلسانه " أشكر الله " ، " أحمد الله " ، فهذا شكر باللسان ، لكن الكلام هنا على الشكر الفعلي الذي يكون بالفعل بأن يقوم الإنسان بطاعة الله بقدر ما يستطيع .
" شرح رياض الصالحين " ( 2 / 71 ) .
ج. وفي " الموسوعة الفقهية " ( 26 / 181 ) :
ويكون الشكر على ذلك أيضا بفعل قربة من القرب ، ... .
ومن ذلك : أن يذبح ذبيحة أو يصنع دعوة .
انتهى مختصراً
وانظر جواب السؤال رقم ( 89705 ) .
والله أعلم
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |