عنوان الفتوى : أضواء على حديث: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي...
يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم ببعض ثم لعنهم على لسان أنبيائهم داود وعيسى ابن مريم: ذلك بماعصوا وكانوا يعتدون ـ وفي لفظ آخر: أوَل مادخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول ياهذا اتق الله ودع ماتفعل من المعاصي ثم يلقاه في الغد فلا يمنعه مارآه منه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض. 1ـ هل المقصود بمؤاكلتهم ومشاربتهم ومجالستهم حال وقوعهم في معصيتهم؟ أم المقصود مؤاكلتهم ومشاربتهم بشكل عام ولو كان في غير معصية؟.2ـ ما المقصود بهذه المعاصي؟ لأنه لا يخفى عليكم أن الإنسان مدني بالطبع ولا يخلو أحد من المسلمين من الوقوع في معصيةٍ ما.3ـ ما معنى: ضرب قلوب بعضهم ببعض؟ وهل يعني مودتهم لبعض؟ وهل يعني أن من يواد أرحامه الفساق ووالديه الكافرين لا لدينهم، بل لدنياهم يحشره الله معهم ويؤاخذه بذنوبهم؟ فإن كان الجواب بنعم، فهل تجدون لي رخصة في هجر أرحامي ووالدي حتى أقطع أسباب مودتهم المودة الطبيعية، لأنني أجد عسر تحرز وحرجاً عظيماً بين الجمع بين صلتهم وعدم محبتهم المحبة الطبيعية؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن هذا الحديث ضعفه الشيخ الألباني والشيخ ابن عثيمين ـ رحمهما الله ـ وأما عن معنى ما سألت عنه: فالمقصود إنكار مخالطتهم وقت المعصية كما يدل له قوله صلى الله عليه وسلم: ثم يلقاه من الغد وهو على حاله.
وفي دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين: ثم يلقاه من الغد وهو على حاله ـ في المعصية: فلا يمنعه ذلك أي: وجدان صاحبه ملازماً على المحرمات التي نهى عنها من: أن يكون أكيله أي: مواكله: وشريبه أي: مشاربه وقعيده أي: مقاعده: أي لا يمنعه ملازمة صاحب لما نهاه الله عنه وحرمه عليه من مصاحبته ومداخلته ومباسطته وهو مأمور بمهاجرته حينئذٍ وترك ولائه إلا إن خاف محذوراً فيداريه ولا يباسطه ويداخله. اهـ.
وأما المعاصي: فتشمل كل الذنوب، وأما معنى ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ففي عون المعبود: ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ـ يقال ضرب اللبن بعضه ببعض أي خلطه، ذكره الراغب، وقال ابن الملك ـ رحمه الله ـ الباء للسببية أي سود الله قلب من لم يعص بشؤم من عصى فصارت قلوب جميعهم قاسية بعيدة عن قبول الحق والخير، أو الرحمة بسبب المعاصي ومخالطة بعضهم بعضا. انتهى.
قال القارئ: وقوله: قلب من لم يعص ليس على إطلاقه، لأن مؤاكلتهم ومشاربتهم من غير إكراه وإلجاء بعد عدم انتهائهم عن معاصيهم معصية ظاهرة، لأن مقتضى البغض في الله أن يبعدوا عنهم ويهاجروهم. انتهى.
قلت: ما قال القارىء حق صراح. اهـ.
وأما مودة الفاسق لسبب دنيوي كقرابته لا لدينه مع بغض معصيته وبغضه بسببها بقدر معصيته فالظاهر جوازها بدليل حب النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بسبب إحسانه إليه كما في أحد المعنين الذين ذكرهما المفسرون في معنى قوله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {القصص: 69}
وقد أباح الشرع زواج العفائف الحرائر من نساء أهل الكتاب ولم يحرج في محبتهن لجمالهن وحب الاستمتاع بهن، وينبغي بغض الفاسق بقدر فسقه، فإن بغض المؤمنين لأهل المعاصي بحسب معصيتهم أصل في دين الله ولو كان العصاة آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ {المجادلة:22}
وهذه الآية الكريمة ليست خاصة بأهل الكفر، بل تشمل أيضاً عصاة المؤمنين، قال القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: استدل مالك ـ رحمه الله ـ في هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم، قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله، لقوله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ـ قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان. انتهى.
وأما عن الهجر: فالواجب على المسلم أولا هو نصح الفساق وتذكيرهم بالله سبحانه وبحقه عليهم، وينبغي أن يبالغ في نصحهم ويكثر من ذلك، فلعل الله أن يكتب لهم الهداية على يديه، فيحوز بذلك الأجر العظيم عنده سبحانه، فإن قام بواجبه تجاههم من النصح والوعظ ولم يُجد ذلك معهم، فينبغي حينئذ التفريق بين الوالدين وبين غيرهما، فأما الوالدان فلا يجوز هجرهما بحال حتى وإن كانا كافرين يدعوان ابنهما إلى عبادة غير الله، وقد بينا هذا في الفتوى رقم: 22420.
وأما غيرهما: فإن أمكن الاتصال بهم من غير تأثر بهم وأمكن وعظهم ونهيهم عن المنكر برفق وحكمة، فهذا خير من هجرهم، ولا حرج في مجالستهم إن كان ينكر عليهم دائما حتى ولو لم يقبلوا نصحه، فإن الله تعالى لما قال: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {الأنعام:68}.
قال بعدها: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {الأنعام:69}.
قال السعدي: هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى بأن كان يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زوال الشر، أو تخفيفه، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ـ أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم لعلهم يتقون الله تعالى. اهـ.
وبهذا يعلم أن الأمر يختلف بحسب الحال، وبحسب اجتهاد المرء في تحقيق المصلحة، والمتأمل لحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ يجد بعض هذه الصور من المعاملة، فنجده يهجر بعض أصحابه ويعرض عن بعضهم أحيانا حتى يتوب لعلمه بتأثير ذلك فيهم وربما يستقبل بعض ضعفاء الإيمان ويهش في وجوههم لمصلحة يراها في ذلك تأليفا لهم، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى على بعض أصحابه خاتما من ذهب فأعرض عنه، فألقاه واتخذ خاتما من حديد فقال: هذا شر، هذا حلية أهل النار، فألقاه فاتخذ خاتما من ورق، فسكت عنه. رواه أحمد.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرأى قبة مشرفة فقال: ما هذه؟ قال له أصحابه: هذه لفلان رجل من الأنصار قال: فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عليه في الناس أعرض عنه، صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه فقال: والله إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خرج فرأى قبتك، قال: فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض. الحديث. رواه أبو داود، وصححه الألباني.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم. اهـ.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: ينبغي على المؤمن أن ينظر في هذه المقامات بنظرالإيمان والشرع والتجرد من الهوى، فإذا كان هجره للمبتدع وبعده عنه لا يترتب عليه شر أعظم فإن هجره حق، وأقل أحواله أن يكون سنة، وهكذا هجر من أعلن المعاصي وأظهرها أقل أحواله أنه سنة، أما إن كان عدم الهجر أصلح لأنه يرى أن دعوة هؤلاء المبتدعين وإرشادهم إلى السنة وتعليمهم ما أوجب الله عليهم يؤثر فيهم ويزيدهم هدى فلا يعجل في الهجر، ولكن يبغضهم في الله كما يبغض الكفار والعصاة، لكن يكون بغضه للكفار أشد، مع دعوتهم إلى الله سبحانه والحرص على هدايتهم عملا بجميع الأدلة الشرعية، ويبغض المبتدع على قدر بدعته إن كانت غير مكفرة، ويبغض العاصي على قدر معصيته، ويحبه في الله على قدر إسلامه وإيمانه، وبذلك يعلم أن الهجر فيه تفصيل.
والخلاصة: أن الأرجح والأولى النظر إلى المصلحة الشرعية في ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم هجر قوما وترك آخرين لم يهجرهم مراعاة للمصلحة الشرعية الإسلامية، فهجر كعب بن مالك وصاحبيه ـ رضي الله عنهم ـ لما تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر، هجرهم خمسين ليلة حتى تابوا فتاب الله عليهم، ولم يهجر عبد الله بن أبي بن سلول وجماعة من المتهمين بالنفاق لأسباب شرعية دعت إلى ذلك، فالمؤمن ينظر في الأصلح وهذا لا ينافي بغض الكافر والمبتدع والعاصي في الله سبحانه ومحبة المسلم في الله عز وجل، وعليه أن يراعي المصلحة العامة في ذلك، فإن اقتضت الهجر هجر، وإن اقتضت المصلحة الشرعية الاستمرار في دعوتهم إلى الله عز وجل وعدم هجرهم فعل ذلك مراعاة لهديه صلى الله عليه وسلم. اهـ.
والله أعلم.