عنوان الفتوى : وجوب الشورى على الإمام وما الذي يجب عليه بعد الاستشارة
شيخي الفاضل: هل الشورى في الإسلام معلمة؟ أم ملزمة؟ فإذا كانت ملزمة فلماذا لم يعمل بها سيدنا أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ عندما شاور سيدنا عمر في محاربة مانعي الزكاة وفي تولي أسامة بن زيد قيادة الجيش؟ وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الشورى من أهم أركان النظام الإسلامي, وهي مشروعة متأكدة في حق ولي الأمر, وذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى وجوبها على الإمام، لظاهر قوله تعالى: وَشَاوِرْهُم فِي الْأَمْرِ {آل عمران :159}.
وقد جود الطاهر بن عاشور ـ رحمه الله ـ البحث في حكم الشورى وأهميتها, ونحن ننقل من كلامه طرفا للفائدة, قال في التحرير والتنوير ما مختصره: وقد دلت الآية على أن الشورى مأمور بها الرسول صلى الله عليه وسلم فيما عبر عنه بالأمر وهو مهمات الأمة ومصالحها في الحرب وغيره, وقد أمر الله بها هنا ومدحها في ذكر الأنصار في قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ {الشورى :38} ـ واشتراطها في أمر العائلة فقال: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا {البقرة:233} ـ فشرع بهاته الآيات المشاورة في مراتب المصالح كلها: وهي مصالح العائلة ومصالح القبيلة، أو البلد ومصالح الأمة، واختلف العلماء في مدلول قوله: وشاورهم ـ هل هو للوجوب، أو للندب؟ وهل هو خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام، أو عام له ولولاة أمور الأمة كلهم؟ فذهب المالكية إلى الوجوب العموم, قال ابن خويز منداد: واجب على الولاة المشاورة فيشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدين, ويشاورون وجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب, ويشاورون وجوه الناس فيما يتعلق بمصالحهم، ويشاورون وجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب, ويشاورون وجوه الناس فيما يتعلق بمصالحهم، ويشاورون وجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها، وأشار ابن العربي إلى وجوبها بأنها سبب للصواب فقال: والشورى مسبار العقل وسبب الصواب يشير إلى أننا مأمورون بتحري الصواب في مصالح الأمة, وما يتوقف عليه الواجب فهو واجب، وقال ابن عطية: الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام, ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب, وهذا ما لا اختلاف فيه.
وقال النووي في صدر كتاب الصلاة من شرح مسلم: الصحيح عندهم وجوبها وهو المختار .
وقال الفخر: ظاهر الأمر أنه للوجوب.
ولم ينسب العلماء للحنفية قولا في هذا الأمر إلا أن الجصاص قال في كتابه أحكام القرآن عند قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ: هذا يدل على جلالة وقع المشورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصلاة ويدل على أننا مأمورون بها، ومجموع كلامي الجصاص يدل أن مذهب أبي حنيفة وجوبها. انتهى محل الغرض من كلامه رحمه الله.
فإذا علمت هذا وظهر لك أن الإمام يجب عليه أن يشاور أهل الحل والعقد فيما ينزل بالأمة من النوازل وما يحتاج إلى مشاورتهم فيه, فاعلم أن الواجب عليه أن يوازن بين أقوالهم فينظر أقربها إلى الكتاب والسنة وأوفقها للمصالح التي تعتبرها الشريعة فيقدم أرجح أقوال المستشارين فيما يبدو له, ولا يلزمه أن يأخذ بقول جماعة منهم دون غيرهم، بل القول الذي يظهر له رجحانه وموافقته للمصلحة فإنه يأخذ به سواء كان رأي أكثرهم، أو أقلهم، أو كان رأيا بين رأيين, هذا ما يدل عليه كلام أهل العلم, ومن الناس من رأى أن الإمام يلزمه الأخذ بقول أهل الشورى كعبد القادر عودة والمودودي وآخرين, ولكن كلام الأئمة يدل على ما ذكرناه قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، وإذا استشارهم, فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله، أو سنة رسوله، أو إجماع المسلمين, فعليه اتباع ذلك, ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك, وإن كان عظيما في الدين والدنيا, قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ {النساء:59} ـ وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون, فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه, فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به. انتهى مختصرا.
وقال القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: والشورى مبنية على اختلاف الآراء, والمستشير ينظر في ذلك الخلاف, وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه, فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه, إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب, وبهذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية. انتهى.
وقال ابن عاشور: فإذا عزمت بعد الشورى أي تبين لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فعزمت على تنفيذه سواء كان على وفق بعض آراء أهل الشورى أم كان رأيا آخر لاح للرسول سداده فقد يخرج من آراء أهل الشورى رأي, وفي المثل: ما بين الرأيين رأي. انتهى.
وبه يتبين لك أنه لا إشكال في فعل أبي بكر أصلا، بل هو دليل على ما قررناه.
والله أعلم.