عنوان الفتوى : ما هي وظيفة القرين من الجن ؟ وهل له تأثير في الاستحاضة والمرور أمام المصلي ؟
سمعنا عن " القرين " وأنه لا يتعدى الوسوسة ، ولكن هناك أثر كبير يبين دور " القرين " وتفلته بالأذى مثل الاستحاضة للصحابيات ، فلو كان بهنَّ مسٌّ أو عين لكان أوصاهن رسول الله وبيَّن أن بهن أذى من سحر أو مس ، ولكن اكتفى صلى الله عليه وسلم بأنها ركضة من الشيطان ، وأيضا الأثر " فإن معه القرين " ، وأيضاً الأثر لابن عمر عندما دخل إلى أهله وكانوا يضعون الخيط فوق عيونهم ، وأيضا الأثر في عمر بن الخطاب عندما كان يسحب الشيطان - وأظنه القرين - ثوبه حين صلاته ، لأن الشيطان المنفلت المنطلق لا يقرب ابن الخطاب رضي الله عنه . فما هو قولكم ، رحمكم الله وبارك الله فيكم ؟
الحمد لله
أولاً:
القرين هو الشيطان الموكَّل بكل إنسان لإغوائه وإضلاله ، وقد جاء ذكر ذلك في القرآن
والسنَّة الصحيحة ، وقد سبق بيان ذلك في جوابي السؤالين (
26226 ) و (
23415 ) فلينظرا .
ثانياً:
الذي يتبين من النظر في أدلة الكتاب والسنَّة أن لا عمل للقرين إلا الوسوسة
والإغواء والإضلال ، وبحسب قوة إيمان العبد يضعف كيد الشيطان القرين ، وأنه ليس
هناك عمل حسي آخر للشيطان ، وتنتهي مهمة هذا القرين بموت المسلم ، ولا ندري عن
مصيره بعدها .
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - :
ما هو القرين ؟ وهل يرافق الميت في قبره ؟ .
فأجاب :
القرين هو شيطان مسلَّط على الإنسان بإذن الله عز وجل ، يأمره بالفحشاء وينهاه عن
المعروف ، كما قال عز وجل : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم
بِالْفَحْشَآءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ ) ، ولكن إذا منّ الله سبحانه وتعالى على العبد بقلب سليم صادق متجه إلى
الله عز وجل مريد للآخرة ، مؤثر لها على الدنيا : فإن الله تعالى يعينه على هذا
القرين حتى يعجز عن إغوائه .
ولذلك ينبغي للإنسان كلما نزغه من الشيطان نزع فليستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ،
كما أمر الله ، قال الله تعالى : ( وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ
نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) . والمراد بنزغ الشيطان : أن
يأمرك بترك الطاعة ، أو يأمرك بفعل المعصية ، فإذا أحسست من نفسك الميل إلى ترك
الطاعة : فهذا من الشيطان ، أو الميل إلى فعل المعصية : فهذا من الشيطان ، فبادر
بالاستعاذة بالله منه : يعذك الله عز وجل .
وأما كون هذا القرين يمتد بأن يكون مع الإنسان في قبره : فلا ، فالظاهر - والله
أعلم - بمجرد أن يموت الإنسان يفارقه ؛ لأن مهمته التي كان مسخراً لها قد انتهت ،
إذ إن ( الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ،
أو ولد صالح يدعو له ) – رواه مسلم - .
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " ( 17 / 427 ، 428 ) ، ويراجع أصل الكلام في " فتاوى
نور على الدرب " ( شريط رقم 315 ) .
ثالثاً:
لا يقتصر دور إبليس وجنوده مع بني آدم على وسوسة القرين التي سبق بيانها ، وإنما
لإبليس أعوان آخرون ، يقومون بوظائف مختلفة ، وكل ما ذكر في السؤال من تصرفات
لإبليس وجنده ، ليس فيها ما يدل على أنها من عمل القرين الخاص الموكل بكل شخص .
فالشيطان الذي يوسوس للإنسان في صلاته ليس هو القرين ، بل هو شيطان خاص لهذا الأمر
، وقد سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم " خِنْزَب " – بفتح الخاء أو كسرها - ، وليس
هو الذي يعقد على قافية المسلم قبل نومه ثلاث عُقَد – كما في الصحيحين - ، وليس هو
الذي يبول في أذن من نام الليل كله حتى أصبح – كما في الصحيحين - ، وهكذا في مسائل
كثيرة ، فكل أولئك جنود لإبليس – على الراجح - ابتلى الله تعالى بهم المسلمين ،
وأمرهم بالاستعاذة منهم ، واتخاذهم أعداء ، وأما القرين فله الوسوسة والإغواء لا
غير .
رابعاً:
وبناء على ما سبق ، يتبين لنا أن الاستحاضة ليست بالضرورة من فعل هذا القرين ، وإن
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر أنها من الشيطان .
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم سبب دم الاستحاضة بعدة أشياء ، وهي :
1. ( هَذَا عِرْقٌ ) رواه البخاري ( 321 ) ومسلم ( 334 ) من حديث عائشة رضي الله
عنها.
2. ( هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ ) رواه أبو داود ( 296 ) من حديث أسماء بنت عميس رضي
الله عنها ، والحديث صححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
3. ( رَكْضَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ عِرْقٌ انْقَطَعَ أَوْ دَاءٌ عَرَضَ لَهَا )
رواه أحمد ( 45 / 602 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ، والحديث صححه محققو المسند .
4. ( رَكْضَةٌ مِنْ الرَّحِمِ ) رواه النسائي ( 209 ) من حديث عائشة رضي الله عنها
، والحديث صححه الألباني في " صحيح النسائي " .
5. ( رَكْضَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ ) رواه الترمذي ( 128 ) وأبو داود ( 287 ) من حديث
حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها ، والحديث حسَّنه الألباني في " صحيح أبي
داود " .
ولا تنافي بين الروايات ، فدم الاستحاضة يخرج من عرق انفجر في أدنى الرحم ، والمرأة
المستحاضة يلبَّس عليها الأمر فتظنه حيضاً وتترك الصلاة ، وأما قوله صلى الله عليه
وسلم ( رَكضة من الشيطان ) وقوله ( هذا من الشيطان ) ليس فيه ما يدل على أنه من فعل
القرين ؛ لما سبق بيانه من اختلاف الشياطين وأعمالهم .
مع أنه قد قيل : إن المراد به ما يحصل من تلبيس الشيطان بذلك ، لا أن نفس الدم من
عمل الشيطان حقيقة .
ينظر : " شرح سنن أبي داود " ، للعيني ( 2 / 69 ) .
خامساً:
مما يصلح أن يكون من فعل القرين – احتمالاً قويّاً - هو ما ذكره الأخ السائل من دفع
القرين للمقترن به ليمرَّ بين يدي المصلي ، فقد جاء النصٌّ الصحيح على هذا أنه من
فعل القرين ، وهذا ليس خارجاً عمّا ذكرنا من أعمال القرين من الوسوسة والتزيين
والإغواء .
عن أَبِى سَعِيدٍ الخدْرِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ( إِذَا
صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شيء يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ
يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْ فِى نَحْرِهِ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ
فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ ). رواه البخاري ( 3100 ) ومسلم ( 505 ) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ
( إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّى فَلاَ يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ ) . رواه مسلم ( 506 ) .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - :
وقد اختلف في معناه :
فقيل : المعنى : أن معه الشيطان المقترن به ، وهو يأمره بذلك ، وهو اختيار أبي حاتم
، وغيره ، ويدل عليه : حديث ابن عمر : ( فإن معه القرين ) .
وقيل : المراد : أن فعله هذا فعل الشيطان ، فهو بذلك من شياطين الإنس ، وهو اختيار
الجوزجاني ، وغيره .
" فتح الباري " لابن رجب ( 2 / 676 ) .
والمراد بأبي حاتم في كلام ابن رجب : هو الإمام ابن حبَّان صاحب الصحيح ، فقد بوَّب
على الحديث بقوله " ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه وسلم ( فَإِنّمَا هُو
شَيْطَان ) أراد به : أن معه شيطاناً يدله على ذلك الفعل ، لا أن المرء المسلم يكون
شيطاناً .
" صحيح ابن حبان " ( 6 / 133 ) .
سادساً:
لم نقف على ما أورده الأخ السائل عن أن الشيطان كان يسحب ثوب عمر أثناء صلاته ، ولا
نعلم لذلك أصلا ، فالله أعلم به .
وأما الذي دخل على أهله فوجدهم يضعون خيطا على أعينهم ، فليس هو ابن عمر ، كما ورد
في السؤال ، وإنما القصة كانت لابن مسعود مع امرأته :
عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا
جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ فَانْتَهَى إِلَى الْبَابِ تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ ، كَرَاهِيَةَ
أَنْ يَهْجُمَ مِنَّا عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ ، قَالَتْ : وَإِنَّهُ جَاءَ ذَاتَ
يَوْمٍ فَتَنَحْنَحَ ، وَعِنْدِي عَجُوزٌ تَرْقِينِي مِنْ الْحُمْرَةِ ،
فَأَدْخَلْتُهَا تَحْتَ السَّرِيرِ ، فَدَخَلَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي ، فَرَأَى
فِي عُنُقِي خَيْطًا ، قَالَ : مَا هَذَا الْخَيْطُ ؟ قَالَتْ : قُلْتُ خَيْطٌ
أُرْقِيَ لِي فِيهِ . قَالَتْ : فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ : ثُمَّ قَالَ : إِنَّ آلَ
عَبْدِ اللَّهِ لَأَغْنِيَاءُ عَنْ الشِّرْكِ ؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ
وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ ) .
قَالَتْ : فَقُلْتُ لَهُ : لِمَ تَقُولُ هَذَا ، وَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ
فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِيهَا وَكَانَ إِذَا
رَقَاهَا سَكَنَتْ ؟!
قَالَ : إِنَّمَا ذَلِكَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ ؛ كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ ،
فَإِذَا رَقَيْتِهَا كَفَّ عَنْهَا ؛ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَذْهِبْ الْبَاسَ ،
رَبَّ النَّاسِ ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي ، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ ، شِفَاءً
لَا يُغَادِرُ سَقَمًا ) .
رواه أحمد (6/110ط الرسالة ) واللفظ له ، وأبو داود (3883) وغيرهما ، وحسنه محققو
المسند ، والشيخ الألباني في المشكاة وغيرها ، ثم إنه عاد فتوسع في تخريجه ، ورجح
ضعفه في "السلسلة الصحيحة" (6/471ـ رقم2972) .
والقصة لا تخرج عما ذكرناه سابقا ، من أن مثل ذلك ، لا
يلزم أن يكون من فعل القرين الخاص بكل امرئ ، وقد سبق الفرق بين "الشيطان" عموما ،
والقرين .
وأما على القول بضعف القصة ، فلا مجال للبحث فيها من أصله .