عنوان الفتوى : ماهية التحذير الوارد في الشرع من تولي القضاء

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

سؤالى بخصوص حديث ابن عمر الذى رواه الترمذى ونصه كالآتي: أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ اذْهَبْ فَاقْضِ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ: أَوَ تُعَافِينِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ فَمَا تَكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ يَقْضِي. قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ كَانَ قَاضِيًا فَقَضَى بِالْعَدْلِ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْقَلِبَ مِنْهُ كَفَافًا فَمَا أَرْجُو بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ. أولاً: هل العمل على هذا الحديث عند أهل العلم؟ وإن كان فكيف نعالج قضية أن كل الأخيار سيتخيرون العزوف عن القضاء ولا يبقى إلا المتجرئين على الإثم للحكم بين الناس؟ ثانياً: هل المقصود مما نقله ابن عمرعن النبي صلى الله عليه وسلم (وأنا أسأل بهذا الخصوص لأني عثرت على ترجمة لهذا الحديث وشعرت بأنها غير دقيقة فأردت أن أراجع المترجم) أنه من حكم بالعدل كان واجب على الله أن يقلبه من ذلك بغير إثم؟ وكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول أن هذا الشخص ينقلب في أسوأ الظروف كفافاً لا له ولا عليه ؟ أم إن النبى عليه الصلاة والسلام قصد أن هذا الشخص لا ينقلب من حكمه العادل إلا كفافاً وأنه لا يوجد احتمال لأن يثاب على حكمه؟ أم أن مقصد النبي عليه الصلاة والسلام هو أنه حري على هذا الذي يحكم بالعدل أن ينقلب هو باختياره ويعتذر عن الحكم وهو لا يزال كفافاً - أي بدون أي محاولة لإبداء الرأي بحيث يتفادى احتمال الوقوع في الإثم؟ آسف على الإطالة وجزاكم الله عنا كل خير.

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن الحديث ضعيف كما قال ابن الملقن في البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير. قال الترمذي : هذا حديث غريب ليس إسناده عندي بمتصل . وقال ابن أبي حاتم في علله : سألت أبي عنه فقال : عبدالملك بن أبي جميلة وعبدالله بن موهب عن عثمان مرسل ... اهـ.

وأما عزوف الأخيار عن القضاء فهو مأثور عن كثير من السلف، وقد فصل أهل العلم في أمره.. فذكروا جواز الإعراض عنه بالنسبة لمن علم من الخيرين وجود من هو أهل له سواه وإلا فإنه يلزم قبوله، وأما من علم من نفسه عدم الأهلية له فيمتنع عليه توليه.

 ففي الموسوعة الفقهية: كان كثير من السلف الصالح يحجم عن تولي القضاء ويمتنع عنه أشد الامتناع حتى لو أوذي في نفسه , وذلك خشية من عظيم خطره كما تدل عليه الأحاديث الكثيرة والتي ورد فيها الوعيد والتخويف لمن تولى القضاء ولم يؤد الحق فيه, كحديث : من ولي القضاء أو جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين . وحديث : القضاة ثلاثة : قاضيان في النار , وقاض في الجنة , رجل قضى بغير الحق فعلم ذاك فذاك في النار , وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار , وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة .  

ويرى بعض العلماء أن كل ما جاء من الأحاديث التي فيها تخويف ووعيد إنما هي في حق قضاة الجور والجهال الذين يدخلون أنفسهم في هذا المنصب بغير علم , وأما قوله صلى الله عليه وسلم : من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين . فقد قال بعض أهل العلم : هذا الحديث دليل على شرف القضاء وعظيم منزلته وأن المتولي له مجاهد لنفسه وهواه , وهو دليل على فضيلة من قضى بالحق إذ جعله ذبيح الحق امتحانا , لتعظم له المثوبة امتنانا , فالقاضي لما استسلم لحكم الله صبر على مخالفة الأقارب والأباعد في خصوماتهم , فلم تأخذه في الله لومة لائم حتى قادهم إلى أمر الحق وكلمة العدل , وكفهم عن دواعي الهوى والعناد , جعل ذبيح الحق لله وبلغ به حال الشهداء الذين لهم الجنة , فالتحذير الوارد من الشرع إنما هو عن الظلم لا عن القضاء , فإن الجور في الأحكام واتباع الهوى فيه من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر , قال الله تعالى : وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا. {الجن:15}. فالأحاديث السابقة بجملتها , بعضها مرغب وبعضها مرهب , والمرغب منها محمول على الصالح للقضاء المطيق لحمل عبئه , والقيام بواجبه , والمرهب منها محمول على العاجز عنه , وعلى ذلك يحمل دخول من دخل فيه من العلماء , وامتناع من امتنع عنه , فقد تقلده بعد المصطفى صلوات الله وسلامه عليه الخلفاء الراشدون , سادات الإسلام وقضوا بين الناس بالحق , ودخولهم فيه دليل على علو قدره , ووفور أجره , فإن من بعدهم تبع لهم , ووليه بعدهم أئمة المسلمين من أكابر التابعين وتابعيهم , ومن كره الدخول فيه من العلماء مع فضلهم وصلاحيتهم وورعهم محمول كرههم على مبالغة في حفظ النفس , وسلوك لطريق السلامة , ولعلهم رأوا من أنفسهم فتورا أو خافوا من الاشتغال به الإقلال من تحصيل العلوم، وممن امتنع عن تولي القضاء بعد أن طلب له سفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي اهـ .

 وقال عليش في منح الجليل : ولزم القضاء الشخص المتعين له لانفراده بشروطه فيلزمه طلبه وقبوله , ولا يجوز له الامتناع منه , ووجب على الإمام توليته وإعانته على الحق، أو الشخص الخائف فتنة بعدم توليه بين المسلمين أو في نفسه أو عياله والحال أنه لم ينفرد بشروطه، أو الخائف ضياع الحق على مستحقه بتولية غيره فيلزمه القبول والطلب لتوليته ... . وإلا أي إن لم يتعين عليه ولم يخف فتنة ولا ضياع الحق فله أي من فيه شروطه الهرب بفتح الهاء والراء من توليته إن لم يعينه الإمام , بل وإن عين بضم فكسر مثقلا من الإمام لتولية القضاء . .. . اهـ   بتصــرف بســـير .

وأما عن معنى الحديث فقد قال فيه المباركفوري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح : قال الطيبي: يعني أن من تولى القضاء واجتهد في تحري الحق واستفرغ جهده فيه حقيق أن لا يثاب ولا يعاقب. اهـ 

وهذا موافق لما قال المترجم ولكن الحديث ضعيف، فيقدم عليه ما في الحديث الصحيح من أجر من علم الحق وقضى به، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلمالقضاة ثلاثة : قاضيان في النار , وقاض في الجنة ؛ رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة , ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار , ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار . رواه أبو داود وغيره , وصححه الألباني في صحيح الجامع . 

والله أعلم .