عنوان الفتوى : حول قاعدة: الأمر بالشيء نهي عن ضده
أرجو توضيحا حول قاعدة الأمر بالشيء نهي عن ضده.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد اختلف العلماء في الأمر بالشيء هل هو عين النهي عن ضده أو لا؟ على ثلاثة أقوال، ومعنى ذلك أن قول الشخص لآخر قم مثلا هل هو عين النهي عن القعود أو لا؟ ولهم في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده، وقد زيف العلامة الشنقيطي هذا القول وذكر أنه مبني على قول المتكلمين الفاسد بإثبات الكلام النفسي.
ومقابل هذا القول: وهو أن الأمر بالشيء ليس هو النهي عن ضده ولا يستلزمه وهو قول المعتزلة.
والقول الثالث: وهو الصواب في هذه المسألة أن الأمر بالشيء ليس هو عين النهي عن ضده، ولكنه يستلزمه لاستحالة الجمع بين الضدين، فالأمر بالقيام ليس هو عين النهي عن القعود، ولكنه يستلزمه، وهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فقد قال ما عبارته: النَّاس اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْأَمْرِ وُجُودُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ ضِدِّهِ، وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَنَازَعٌ فِيهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِطَرِيقِ اللَّازِمِ وَقَدْ يَقْصِدُهُ الْآمِرُ وَقَدْ لَا يَقْصِدُهُ. انتهى.
ونحن نسوق من كلام العلامة الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في مذكرته في أصول الفقه ما تتبين به الأقوال المتقدمة وما احتج به قائلوها ويعرف به الراجح منها وما ينبني على هذه المسألة من المسائل قال ـ رحمه الله: اعلم أن كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده فيه ثلاثة مذاهب:
الأول: أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده، وهذا قول جمهور المتكلمين، قالوا: اسكن مثلا، السكون المأمور به فيه، هو عين ترك الحركة، قالوا: وشغل الجسم فراغاً هو عين تفريغه للفراغ الذى انتقل عنه، والبعد من المغرب هو عين القرب من المشرق وهو بالنسبة إليه أمر، وإلى الحركة نهي، والذين قالوا بهذا القول اشترطوا في الأمر كون المأمور به معيناً وكون وقته مضيقاً ولم يذكر ذلك المؤلف، أما اذا كان غير معين كالأمر بواحد من خصال الكفارة فلا يكون نهياً عن ضده، فلا يكون في آية الكفارة نهي عن ضد الإعتاق مثلا لجواز ترك الإعتاق من أصله والتلبس بضده والتكفير بالإطعام مثلا، والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن قول المتكلمين ومن وافقهم من الأصوليين أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده، مبني على زعمهم الفاسد أن الأمر قسمان: نفسي ولفظي، وأن الأمر النفسي، هو المعنى القائم بالذات المجرد عن الصيغة وبقطعهم النظر عن الصيغة، واعتبارهم الكلام النفسي، زعموا أن الأمر هو عين النهي عن الضد، مع أن متعلق الأمر طلب، ومتعلق النهي ترك، والطلب استدعاء أمر موجود، والنهي استدعاء ترك، فليس استدعاء شيء موجود، وبهذا يظهر أن الأمر ليس عين النهي عن الضد وأنه لا يمكن القول بذلك إلا على زعم أن الأمر هو الخطاب النفسي القائم بالذات المجرد عن الصيغة.
المذهب الثاني: أن الأمر بالشيء ليس عين النهي عن ضده، ولكنه يستلزمه، وهذا هو أظهر الأقوال، لأن قولك اسكن مثلا يستلزم نهيك عن الحركة، لأن المأمور به لا يمكن وجوده مع التلبس بضده لاستحالة اجتماع الضدين وما لا يتم الواجب إلا به واجب ـ كما تقدم ـ وعلى هذا القول أكثر أصحاب مالك، وإليه رجع الباقلاني في آخر مصنفاته وكان يقول بالأول.
المذهب الثالث: أنه ليس عينه ولا يتضمنه وهو قول المعتزلة والإبياري من المالكية، وإمام الحرمين والغزالي من الشافعية، واستدل من قال بهذا بأن الآمر يجوز أن يكون وقت الأمر ذاهلا عن ضده وإذا كان ذاهلا عنه فليس ناهياً عنه، إذ لا يتصور النهي عن الشيء مع عدم خطوره بالبال أصلا، ويجاب عن هذا بأن الكف عن الضد لازم لأمره مستلزم ضرورة للنهي عن ضده لاستحالة اجتماع الضدين، ومن المسائل التي تنبني على الاختلاف في هذه المسألة قول الرجل لامرأته إن خالفت نهيي فأنت طالق، ثم قال قومي فقعدت فعلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فقوله قومي هو عين النهي عن القعود فيكون قعودها مخالفة لنهيه المعبر عنه بصيغة الأمر فتطلق وعلى أنه مستلزم له فيتفرع على الخلاف المشهور في لازم القول هل هو قول أو لا؟ وعلى أنه ليس عين النهي عن الضد ولا مستلزما له فإنها لا تطلق، ومن المسائل المبنية عليها ـ أيضاً ـ ما لو سرق المصلي في صلاته، أو لبس حريراً، أو نظر محرما، فعلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده فيكون الأمر بالصلاة هو عين النهي عن السرقة مثلا فتبطل الصلاة، بناء على أن النهي يستلزم الفساد، فعين السرقة منهي عنها في الصلاة بنفس الأمر بالصلاة، فعلى أن النهي يقتضي الفساد فالصلاة باطلة. انتهى بتصرف يسير.
والله أعلم.