عنوان الفتوى : لم يثبت عن الإمام الشافعي قوله إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

سمعت أن الإمام الشافعي ذهب لقبر الإمام أبي حنيفة ليدعو الله لنفسه تيمنا ببركة المكان ، وأرى أن هذا أمر خطير ؛ لأننا لا نتبرك بمكان إلا بقول من الله أو رسوله . سأكون ممتنا إذا ما وضحتم أمر هذه الرواية ، فهذا الأمر يربكني كثيرا ؛ لأنه قاله أناس يقومون بعمل الكثير من أجل الدين ، ولكنهم يدافعون عن بعض معتقدات كهذه ؟

مدة قراءة الإجابة : 8 دقائق

الحمد لله

أولا : تخريج الأثر عن الإمام الشافعي رحمه الله

هذه القصة يرويها مكرم بن أحمد في كتابه " مناقب أبي حنيفة " - كما في رواية القاضي أبي عبد الله الحسين بن علي الصيمري للكتاب (ص/94)، وعنه الخطيب البغدادي في " تاريخ بغداد " (1/123) - فيقول مكرم بن أحمد :

ثنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم ، قال ثنا علي بن ميمون ، قال سمعت الشافعي يقول :

( إني لأتبرك بأبي حنيفة ، وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائرا - فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين ، وجئت إلى قبره ، وسألت الله الحاجة ، فما تبعد عني حتى تقضى )

ثانيا : الحكم على إسناده

في هذا الإسناد مطاعن عدة :

الأول : كتاب مكرم بن أحمد اتهمه الدارقطني باشتماله على الوضع والكذب بسبب أحد شيوخه ، واسمه أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحماني .

قال الخطيب البغدادي رحمه الله :

" حدثني أبو القاسم الأزهري ، قال : سئل أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني - وأنا أسمع - عن جمع مكرم بن أحمد فضائل أبى حنيفة فقال : موضوع ، كله كذب ، وضعه أحمد بن المغلس الحماني قرابة جبارة ، وكان في الشرقية " انتهى.

" تاريخ بغداد " (4/209)، وانظر ترجمة : أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحماني في " لسان الميزان " (1/269) ، وينظر أيضا : تعليق العلامة المعلمي على كلام الدارقطني في: " التنكيل " (1/59) .

الثاني : عمر بن إسحاق بن إبراهيم : لم نقف له على ترجمة .

الثالث : علي بن ميمون : إن كان هو الرقي فهو ثقة كما قال أبو حاتم ، ولكننا لم نقف على من أثبت له سماعا عن الشافعي رحمه الله .

ثالثا : أقوال أهل العلم في هذا الأثر

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" المنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه :

مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي أنه قال : ( إني إذا نزلت بي شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة فأجاب ) أو كلاما هذا معناه .  

وهذا كذلك معلوم كذبه بالاضطرار عند من له معرفة بالنقل :

فإن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة ، بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفا .

وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين ، من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء ، فما باله لم يَتَوَخَّ الدعاء إلا عنده .

ثم إن أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وطبقتهم ، لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند أبي حنيفة ولا غيره .

ثم قد تقدم عند الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها.

وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه " انتهى باختصار.

" اقتضاء الصراط المستقيم " (2/692)

ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله :

" والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر " انتهى.

" إغاثة اللهفان " (1/246)

ويقول العلامة المعلمي رحمه الله :

" مَن عُمَرُ هذا – يعني عمر بن إسحاق بن إبراهيم الراوي للأثر - ، ومَن شيخُه ، أمُوَثَّقان هما عند الخطيب كما زعم الكوثري ؟!

أما أنا فقد فتشت " تاريخ بغداد " فلم أجد فيه ، لا موثقين ولا غير موثقين ، بل ولا وجدتهما في غيره .

نعم في غيره علي بن ميمون الرقي يروي عن بعض مشايخ الشافعي ونحوهم ، وهو موثق ، لكن لا نعرف له رواية عن الشافعي ، وقد راجعت " توالي التأسيس " لابن حجر لأنه حاول فيها استيعاب الرواة عن الشافعي فلم أجد فيهم علي بن ميمون ، لا الرقي ولا غيره ، انظر  "توالي التأسيس" (ص/81)

هذا حال السند ، ولا يخفى على ذي معرفة أنه لا يثبت بمثله شيء ، ويؤكد ذلك حال القصة ، فإن زيارته قبر أبي حنيفة كل يوم بعيد في العادة ، وتحريه قصده للدعاء عنده بعيد أيضاً ، إنما يعرف تحري القبور لسؤال الحوائج عندها بعد عصر الشافعي بمدة ، فأما تحري الصلاة عنده فأبعد وأبعد " انتهى.

" التنكيل " (1/60)

ويقول الشيخ الألباني رحمه الله :

" فهذه رواية ضعيفة بل باطلة ، فإن عمر بن إسحاق بن إبراهيم غير معروف ، وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال .

ويحتمل أن يكون هو عمرو - بفتح العين - بن إسحاق بن إبراهيم بن حميد بن السكن أبو محمد التونسي ، وقد ترجمه الخطيب ، وذكر أنه بخاري قدم بغداد حاجا سنة 341هـ ، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، فهو مجهول الحال .

ويبعد أن يكون هو هذا ، إذ إن وفاة شيخه علي بن ميمون سنة 247هـ على أكثر الأقوال ، فبين وفاتَيهما نحو مائة سنة ، فيبعد أن يكون قد أدركه .

وعلى كل حال فهي رواية ضعيفة لا يقوم على صحتها دليل " انتهى.

" السلسلة الضعيفة " (رقم/22)

وفي "اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2/680-710) مبحث طويل في حكم قصد الدعاء عند قبر معين تبركا به ، خلاصته الحكم ببدعية هذا الفعل وعدم شرعيته ، وقد سبق ذكر ذلك في موقعنا في جواب السؤال رقم : (105370)

والله أعلم .