عنوان الفتوى : خطر العجب وطريق التخلص منه
وفقكم الله على إتاحة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالذي ننصحك به أولاً هو التوبة النصوح مما أنت مقيمة عليه من المعاصي، فإن التوبة إلى الله تعالى واجبة على كل مسلم، وعليك أن تحافظي على ما يمكنك المحافظة عليه من السنن، فإن في ذلك الخير الكثير، واعلمي أنك لو تبت إلى ربك وصدقت في اللجوء إليه والإقبال عليه، واتقيته ما استطعت فسيكون لك ما للمتقين من الأجر، ومن ذلك إجابة الدعاء وسعة الرزق وتيسير الأمور مصداق قوله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا {الطلاق:4}، وعليك أن تجتهدي في الطاعة ما أمكنك مع استحضار أن عملك وطاعتك منة من الله عليك، وأنه لا فضل لك فيها، وإياك واحتقار الناس وغمطهم، وأن تظني أنك أفضل منهم، وأنهم ليسوا بشيء، وأن طاعاتهم غير نافعة ولا مقبولة، فإن احتقار الناس، وظن الإنسان أنه أفضل منهم هو العجب الذي يمحق الحسنات ويفسد الطاعات، واعلمي أن قبول الطاعات مرده إلى الله تعالى، وأقدار الناس ومنازلهم لا يعلمها إلا الله سبحانه، فربما يحتقر الإنسان من هو أفضل منه عند الله بمرات، فـ "رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره". كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وزيادة في بيان خطر العجب وطريق التخلص منه نقول: إن العجب من أخطر الأدواء وأعظم الآفات التي تصيب القلب، فتمحق العمل وتذهب بثوابه وتضيع ثمرته، وذلك أن المعجب يمن على ربه بطاعته ويزدري الخلق ويحتقرهم في حين أن المنة لله تعالى على خلقه، فهو المتفضل وحده والعبد لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {17}، ولذلك روي في الحديث: لو لم تكونوا تذنبون لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب. ذكره البيهقي في الشعب وغيره.
وعلاج ذلك أن يسير العبد إلى ربه بين أمرين هما مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل، فإذا شهد منة ربه عليه، وأن الأمر كما قال الله تعالى (وما بكم من نعمة فمن الله)، لم يعجب بعمله لعلمه أنه ليس منه، وإنما هو محض منة الله عليه، وإذا طالع عيب نفسه أحدث له ذلك انكساراً وذلاً فيرى عمله هزيلاً حقيراً لا يصلح أن يتقرب به إلى الله تعالى، فيكون قلبه معلقاً بالله تعالى في قبول هذا العمل اليسير كما من به أولا، فالعبد الصادق في عبوديته يجتهد في طاعة ربه تعالى ويستفرغ وسعه في ذلك، ثم يرى أنه مقصر مفرط، وأنه مفتقر إلى عفو ربه أن يتداركه برحمته، وقد كان هذا حال السلف الطيب رحمهم الله، يجتهدون في الطاعات ويشهدون التقصير ولا يأمنون مكر الله، ولذلك فازوا وأفلحوا، وقد سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ". أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر ويخاف الله، فقال لها: لا يا ابنة الصديق، بل هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخشى ألا يتقبل الله منه.
فعليك أن تسلكي هذا السبيل اجتهاداً في الطاعة مع شهود المنة ومطالعة عيب النفس والعمل، ونختم بهذه الشذرة من كلام ابن القيم رحمه الله حيث قال : فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسك، فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الذل والإنكسار ودوام اللجوء إلى الله تعالى والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده، فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من حديث بريدة رضي الله تعالى عنه: سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلق به، ولا وسيلة منه يمن بها بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر، إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته.
ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى، والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل وذل تام، ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام، وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غرة وغيلة وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته. انتهى.
والله أعلم.