عنوان الفتوى : تفسير قوله تعالى (..حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود..)
سؤالي: في كتاب الله عز وجل جاء بيان الصوم يبدأ من بيان الخيط الأبيض من الأسود. فلماذا نرى الناس الآن يبدأون الصوم مع آذان الفجر مع أن النص القرآني صريح ولا يحتاج تفسير؟ والشق الثاني من
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فما ذكرته من كون الآية واضحة في أن الصوم يبدأ من تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود كلام صحيح، ولكن المراد بالخيط الأبيض هو بياض النهار وبالخيط الأسود سواد الليل كما فسره بذلك من أنزل عليه القرآن وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فما عليه الناس من ترك الأكل والشرب مع تبين الفجر هو الصواب الذي يجب على كل مسلم أن يفعله، واعتراضك على هذا هو المنكر، وهو مما يصدق فيه قول القائل:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيمِ.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه لما نزل قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) قَالَ عَدِىُّ بْنُ حَاتِمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَجْعَلُ تَحْتَ وِسَادَتِى عِقَالَيْنِ عِقَالاً أَبْيَضَ وَعِقَالاً أَسْوَدَ أَعْرِفُ اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم: إِنَّ وِسَادَتَكَ لَعَرِيضٌ إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ.
وهذا هو التفسير النبوي وشواهد في كلام العرب كثيرة.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: قوله تعالى: { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ، بينه قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} والعرب تسمي ضوء الصبح خيطا، وظلام الليل المختلط به خيطا، ومنه قول أبي دواد الإيادي:
فلما أضاءت لنا سدفة ... ولاح من الصبح خيط أنارا
وقول الآخر:
الخيط الابيض ضوء الصبح منفلق ... والخيط الاسود جنح الليل مكتوم. انتهى.
وفي محاسن التأويل للقاسمي ما نصه: { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } أباح تعالى الأكل والشرب - مع ما تقدم من إباحة الجماع - في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل . وشُبّها بخيطين : أبيض وأسود ، لأن أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل ، كالخيط الممدود.
قال أبو دؤاد الإيادي:
فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيطٌ أنارا
وقوله : { مِنَ الْفَجْرِ } بيان للخيط الأبيض . واكتفى به عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحدهما بيان للثاني . وقد رفع بهذا البيان الالتباس الذي وقع أول أمر الصيام . كما روى الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد قال : أنزلت : { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } ولم ينزل : { مِنَ الْفَجْرِ }. وكان رجال إذا أرادوا والصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعده : { مِنَ الْفَجْرِ } فعلموا إنما يعني الليل والنهار ، ورويا أيضاً . واللفظ لمسلم - عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } قال له عدي : يا رسول الله ! إني أجعل تحت وسادتي عقالين : عقالاً أبيض وعقالاً أسود ، أعرف الليل من النهار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن وسادك لعريض ، إنما هو سواد الليل وبياض النهار)) .
قال ابن كثير: ومعنى قوله : إن وسادك لعريض أي : إن كان يسع تحته الخيطين المرادين من هذه الآية ؛ فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب. انتهى كلامه رحمه الله.
وبهذا البيان الواضح تعلم خطأك في الاعتراض على ما عليه عمل المسلمين قاطبة من الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر.
وأما ما روي عن بعض السلف من أنهم أباحوا الأكل حتى طلوع الشمس فهو وإن كان مرويا عن حذيفة رضي الله عنه وغيره إلا أنهم محجوجون بالنصوص الدالة على وجوب الإمساك من طلوع الفجر، فهو اجتهاد أخطأوا فيه رضي الله عنهم.
قال ابن القيم رحمه الله في حاشيته على سنن أبي داود: وقد اختلف في هذه المسألة.
فروى إسحاق بن راهويه عن وكيع أنه سمع الأعمش يقول لولا الشهرة لصليت الغداة ثم تسحرت، ثم ذكر إسحاق عن أبي بكر الصديق وعلي وحذيفة نحو هذا ثم قال وهؤلاء لم يروا فرقا بين الأكل وبين الصلاة المكتوبة. هذا آخر كلام إسحاق.
وقد حكي ذلك عن ابن مسعود أيضا.
وذهب الجمهور إلى امتناع السحور بطلوع الفجر وهو قول الأئمة الأربعة وعامة فقهاء الأمصار، وروى معناه عن عمر وابن عباس واحتج الجمهور بقوله تعالى: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ. وبقول النبي صلى الله عليه وسلم :كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. وبقوله: الفجر فجران فأما الأول فإنه لا يحرم الطعام ولا يحل الصلاة.
وأما الثاني فإنه يحرم الطعام ويحل الصلاة رواه البيهقي في سننه. انتهى.
وفي المجموع للنووي ذكر الخلاف وتفصيل أدلة الجمهور بأوسع من هذا، وذكر كلام العلماء في هذه المسألة يطول جدا، وفيما ذكرناه لطالب الحق مقنع.
والله أعلم.