عنوان الفتوى : ماهية الخطأ المغفور في الاجتهاد والمثاب عليه
أرجو توضيح الفرق بين خطأ العالم الذي يكون له فيه أجر - كما ورد في الحديث - وبين البدعة التي تأتي منه أو من غيره، وأيضا فمن المعلوم أن العامة تبع لعلمائهم ؛ فعوام أهل السنة تبع لهم في فتاويهم، وعوام أهل البدع تبع لهم كذلك، فإذا كان العامي على بدعة لأن من يثق في علمه أفتاه بها، هل يختلف حكمه عن غيره من أهل السنة في ذلك ؟ وحقيقة لقد احترت في الفرق ، مع التسليم بذم البدع وأهلها ، لكني أردت معرفة الفرق؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالحقيقة أنه لا فرق بين خطأ العالم المجتهد في فرع من فروع العلم، وبين خطئه في الحكم على عبادةٍ ما بكونها سنة أو بدعة، فما دام مؤهلا للاجتهاد، وليس في المسألة إجماع ولا نص قاطع، فهو دائر بين الأجر والأجرين طالما أنه بذل وسعه في الإصابة وموافقة الشرع.
ولكن لا بد من التفريق بين البدع التي شرع جنسها كبعض أنواع الصلوات الخاصة، كليلة النصف من شعبان وأول رجب، وبين البدع التي لم يشرع جنسها كالطواف بالقبر والتقرب إلى الله بسماع المعازف، فالأولى مما يعذر فيه المخطئ ويؤجر على القدر المشروع من عبادته، وأما الثانية فليست محلا للأجر أصلا، ولشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كلام طويل ومتين في هذه المسألة ينبغي مراجعته، ومما قال رحمه الله: والمجتهد المخطئ له أجر؛ لأن قصده الحق وطلبه بحسب وسعه، وهو لا يحكم إلا بدليل ... ففي الجملة: الأجر هو على اتباعه الحق بحسب اجتهاده؛ ولو كان في الباطن حق يناقضه هو أولى بالاتباع لو قدر على معرفته؛ لكن لم يقدر، فهذا كالمجتهدين في جهات الكعبة، وكذلك كل من عبد عبادة نهي عنها ولم يعلم بالنهي لكن هي من جنس المأمور به، مثل من صلى في أوقات النهي وبلغه الأمر العام بالصلاة ولم يبلغه النهي، أو تمسك بدليل خاص مرجوح مثل صلاة جماعة من السلف ركعتين بعد العصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما، ومثل صلاة رويت فيها أحاديث ضعيفة أو موضوعة كألفية نصف شعبان وأول رجب وصلاة التسبيح، كما جوزها ابن المبارك، وغير ذلك، فإنها إذا دخلت في عموم استحباب الصلاة ولم يبلغه ما يوجب النهي أثيب على ذلك، وإن كان فيها نهي من وجه لم يعلم بكونها بدعة تتخذ شعارا ويجتمع عليها كل عام، فهو مثل أن يحدث صلاة سادسة؛ ولهذا لو أراد أن يصلي مثل هذه الصلاة بلا حديث لم يكن له ذلك، لكن لما روي الحديث اعتقد أنه صحيح فغلط في ذلك، فهذا يغفر له خطؤه ويثاب على جنس المشروع، وكذلك من صام يوم العيد ولم يعلم بالنهي، بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك، فإن هذا لا ثواب فيه وإن كان الله لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة، كما قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. لكنه وإن كان لا يعذب فإن هذا لا يثاب، بل هذا كما قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} ... فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسول، وأما بطلانها في نفسها فلأنها غير مأمور بها، فكل عبادة غير مأمور بها فلا بد أن ينهى عنها. ثم إن علم أنها منهي عنها وفعلها استحق العقاب، فإن لم يعلم لم يستحق العقاب، وإن اعتقد أنها مأمور بها وكانت من جنس المشروع فإنه يثاب عليها، وإن كانت من جنس الشرك فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به، لكن قد يحسب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به، وهذا لا يكون مجتهدا؛ لأن المجتهد لا بد أن يتبع دليلا شرعيا، وهذه لا يكون عليها دليل شرعي، لكن قد يفعلها باجتهاد مثله، وهو تقليده لمن فعل ذلك من الشيوخ والعلماء، والذين فعلوا ذلك قد فعلوه لأنهم رأوه ينفع أو لحديث كذب سمعوه، فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يعذبون .. وأما الثواب بالتقرب إلى الله فلا يكون بمثل هذه الأعمال. والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية، كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد، ولم يعرفه، مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يرى لقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار}. ولقوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب}. كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يدلان بطريق العموم. وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى وفسروا قوله: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} بأنها تنتظر ثواب ربها، كما نقل عن مجاهد وأبي صالح. أو من اعتقد أن الميت لا يعذب ببكاء الحي؛ لاعتقاده أن قوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}. يدل على ذلك؛ وأن ذلك يقدم على رواية الراوي لأن السمع يغلط، كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف. أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي؛ لاعتقاده أن قوله: {فإنك لا تسمع الموتى} يدل على ذلك.
أو اعتقد أن الله لا يعجب كما اعتقد ذلك شريح لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب والله منزه عن الجهل. أو اعتقد أن عليا أفضل الصحابة لاعتقاده صحة حديث الطير؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر" ... أو اعتقد أن بعض الكلمات أو الآيات أنها ليست من القرآن لأن ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت، كما نقل عن غير واحد من السلف أنهم أنكروا ألفاظا من القرآن كإنكار بعضهم: {وقضى ربك} وقال: إنما هي (ووصى ربك). وإنكار بعضهم قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} وقال: إنما هو ميثاق بني إسرائيل، وكذلك هي في قراءة عبد الله. وإنكار بعضهم: {أفلم ييأس الذين آمنوا} إنما هي أولم يتبين الذين آمنوا ... اهـ. وذكر أمثلة أخرى لذلك.
والذي ينبغي التنبه له أن مسألة الدور بين الأجر والأجرين خاصة بأهل العلم الذين يسوغ لهم الاجتهاد، ويتوجه قصدهم لإصابة الحق، ويبذلون في ذلك وسعهم.
قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم، فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده .. قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم، ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه، سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر عند شرح تبويب الإمام البخاري: (باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ) قال: يشير إلى أنه لا يلزم من رد حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم، قال ابن المنذر: وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالما بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالما فلا. واستدل بحديث: "القضاة ثلاثة" وفيه: "وقاض قضى بغير حق فهو في النار، وقاض قضى وهو لا يعلم فهو في النار" وهو حديث أخرجه أصحاب السنن عن بريدة ... وقال الخطابي في (معالم السنن): إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعا لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطأ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه .. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 122017، 67614.
وأما مسألة تقليد العامي لأحد من أهل العلم في بدعة عملها، فإنه إن كان يعتقد أنه من أهل العلم والاجتهاد، ويظن إصابته للحق في هذه المسألة، ولم يقلده عن هوى وعصبية، فهو معذور، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أفتي بغير علم ـ وفي رواية: من أفتي بفتيا غير ثبت ـ كان إثمه على من أفتاه. رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 16179.
ويجدر التنبيه هنا على أن هذا العامي المقلِّد في البدعة أو غيرها من المخالفات الشرعية، قد لا يعذر بل يؤزر، ومع ذلك يعذر بل يؤجر العالم الذي قلده، وذلك إذا توفرت في هذا العالم الضوابط التي سبق ذكرها، وقصر العامي في السؤال وتحري الحق وكان في تقليده متبعا لهواه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهدا، قصده اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع؛ فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه. ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبع في ذلك هواه ونصره باللسان واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه. ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه ... وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد؛ فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق؛ فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا، وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما. اهـ.
وقال ابن القيم في (إعلام الموقعين): فإن قال: وإن أخطأ فهو مأجور؟ قيل: أجل هو مأجور لاجتهاده، وأنت غير مأجور لأنك لم تأت بموجب الأجر، بل قد فرطت في الاتباع الواجب، فأنت إذاً مأزور. فإن قال: كيف يأجره الله على ما أفتى به ويمدحه عليه، ويذم المستفتي على قبوله منه؟ وهل يعقل هذا ؟! قيل له: المستفتي إن هو قصر وفرط في معرفته الحق مع قدرته عليه لحقه الذم والوعيد، وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور أيضا. اهـ.
والله أعلم.