عنوان الفتوى : مقامات الناس عند البلاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الله تعالى حكم عدل، وإقامة العدل المطلق لا تكون في الدنيا، وإنما تكون في الآخرة، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ. { الأنبياء: 47 }. وقال عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ. { إبراهيم: 42 }.
قال ابن كثير: أي: لا تحسبه إذ أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عدا. هـ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. رواه مسلم.
وقد سبق بيان ذلك في الفتويين رقم: 120102، ورقم: 124756.
فالأمر في الآخرة بيِّن.
وأما في الدنيا: فالعائن ـ فضلا عن الحاسد ـ فيه نوع ظلم وتقصير، فعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو مكة، حتى إذا كانوا بشعب الخزار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف، وكان رجلا أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة وهو يغتسل فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة؟ فلبط سهل، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله! هل لك في سهل؟ والله ما يرفع رأسه وما يفيق؟ قال: هل تتهمون فيه من أحد؟ قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا فتغيظ عليه وقال: علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت. الحديث رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني.
ووجه الدلالة في تغيظ النبي صلى الله عليه وسلم على عامر بن ربيعة وتسمية فعله قتلا، قال القاري في مرقاة المفاتيح: فيه دلالة على أن للعائن اختياراً ما في الإصابة أو في دفعها. هـ.
وأما عن عقوبة العائن في الدنيا، فقال ابن القيم في زاد المعاد: قال أصحابنا ـ يعني الحنابلة ـ وغيرهم من الفقهاء: إن من عرف بذلك ـ يعني من يصيب بعينه ـ حبسه الإمام وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت، وهذا هو الصواب قطعا. هـ.
وقال النووي في شرح مسلم: قال القاضي: في هذا الحديث من الفقه ما قاله بعض العلماء: أنه ينبغي إذا عرف أحد بالإصابة بالعين أن يجتنب ويتحرز منه، وينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس ويأمره بلزوم بيته، فإن كان فقيرا رزقه ما يكفيه، ويكف أذاه عن الناس، فضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم دخول المسجد، لئلا يؤذي المسلمين، ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر ـ رضي الله عنه ـ والعلماء بعده الاختلاط بالناس، ومن ضرر المؤذيات من المواشي التي يؤمر بتغريبها إلى حيث لا يتأذى بها أحد، وهذا الذي قاله هذا القائل صحيح متعين ولا يعرف عن غيره تصريح بخلافه. هـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية تحت عنوان: عقوبة العائن: قال المالكية: إذا أتلف العائن شيئا فإنه يضمنه. هـ.
هذا، وننبه ـ الأخت السائلة ـ على أنه ينبغي لمن أصيب بشيء من هذا البلاء أن لا ينحصر فكره في جزاء ظالمه وعقوبته، بل ينبغي أن يتذكر ما له من الأجر على صبره على بلواه، فقد قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. { الزمر: 10 }.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض. رواه الترمذي، وحسنه الألباني.
وقال ابن القيم في عدة الصابرين: عن الصبر على ما لا يدخل تحت الاختيار وليس للعبد حيلة في دفعه، كالمصائب التي لا صنع للعبد فيها كموت من يعز عليه وسرقة ماله ومرضه ونحو ذلك: هذا نوعان، أحدهما: ما لا صنع للعبد الآدمي فيه. والثاني: ما أصابه من جهة آدمي مثله كالسب والضرب وغيرهما.
فالنوع الأول للعبد فيه أربع مقامات:
أحدها: مقام العجز: وهو مقام الجزع والشكوى والسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلا ودينا ومروءة وهو أعظم المصيبتين.
المقام الثاني: مقام الصبر: إما لله، وإما للمروءة الإنسانية.
المقام الثالث: مقام الرضا وهو أعلى من مقام الصبر.
المقام الرابع: مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضا، فإنه يشهد البلية نعمة فيشكر المبتلى عليها.
وأما النوع الثاني: وهو ما أصابه من قبل الناس: فله فيه هذه المقامات ويضاف إليها أربعة أخر:
أحدها: مقام العفو والصفح.
والثاني: مقام سلامة القلب من إرادة التشفي والانتقام وفراغه من ألم مطالعة الجناية كل وقت وضيقه بها. الثالث: مقام شهود القدر وإنه وإن كان ظالما بإيصال هذا الأذى إليك فالذي قدره عليك وأجراه على يد هذا الظالم ليس بظالم، وأذى الناس مثل الحر والبرد لا حيلة في دفعه، فالمتسخط من أذى الحر والبرد غير حازم والكل جار بالقدر وان اختلفت طرقه وأسبابه.
المقام الرابع: مقام الإحسان إلى المسيء ومقابلة إساءته بإحسانك، وفي هذا المقام من الفوائد والمصالح ما لا يعلمه إلا الله، فإن فات العبد هذا المقام العالي فلا يرضى لنفسه بأخس المقامات وأسفلها.هـ.
ولذلك ننصح الأخت السائلة بمجاهدة نفسها في تحصيل هذه المقامات العالية، التي تنفع صاحبها في دينه ودنياه، في أولاه وأخراه.
وقد سبق لنا بيان علاج الحسد والعين في الفتويين رقم: 24972، ورقم: 3273.
ولتمام الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 79902.
والله أعلم.