عنوان الفتوى : شبهات وجوابها حول نسب النبي صلى الله عليه وسلم
في قصة درة التي اشتكت للنبي عليه الصلاة والسلام ان بعض الناس يعيرونها بأبويها الكافرين، فغضب رسول الله وقال في معنى حديثه: إن كل نسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبه. فهل معناه انه لا يجوز أن نتكلم عن أنساب النبي الكافرين بسوء لسبب كفرهم، كأن نقول أبو طالب مات مشركا علينا بغضه في الله؟ هل هنا آذينا رسول الله في نسبه ؟ أرجو التوضيح يا شيخ؟وكذلك نحن نؤمن أن النبي عليه السلام أحسن الناس نسبا، فوسوس لي الشيطان: كيف يكون كذلك ونسبه فيه الكفار والمشركون، وبعض الناس نسبهم كلهم مسلمون من جدهم الأكبر إليهم؟هذه شبهة اخرى يا شيخ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما الحديث الذي تعنيه السائلة فلا ندري ما هو، وقد ذكر السيوطي في (الدر المنثور) ما رواه ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: مرت درة ابنة أبي لهب برجل فقال: هذه ابنة عدو الله أبي لهب. فأقبلت عليه فقالت: ذكر الله أبي لنسابته وشرفه وترك أباك لجهالته، ثم ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس فقال: لا يؤذين مسلم بكافر.
وبهذه الرواية يتبين أن المراد أن لا يؤذى المسلم بنسبه تعييرا وتقبيحا، فليس المقصود حفظ مكانة الكافر الميت، وإنما المقصود هو صيانة المسلم وحفظه من الأذية التي قد تقع عليه بسبب نسبه.
ولذلك لا يحمد ذكر قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الكافرين بسوء، إن كان لغير مقصد شرعي، كبيان أن النسب لا ينفع صاحبه الكافر، ولا يرفع صاحبه عن مرتبة عمله، ونحو ذلك. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه. رواه مسلم.
قال النووي: معناه: من كان عمله ناقصا لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال، فينبغي أن لا يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء ويقصر في العمل. اهـ.
وقال ابن رجب في (جامع العلوم والحكم): معناه أن العمل هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة، كما قال تعالى: (ولكل درجات مما عملوا). فمن أبطأ به عمله أن يبلغ به المنازل العالية عند الله لم يسرع به نسبه فيبلغه تلك الدرجات، فإن الله تعالى رتب الجزاء على الأعمال لا على الأنساب، كما قال تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون). اهـ.
وقال القاري في (مرقاة المفاتيح): أي لم يقدمه نسبه، يعني لم يجبر نقيصته لكونه نسيبا في قومه؛ إذ لا يحصل التقرب إلى الله تعالى بالنسب بل بالأعمال الصالحة؛ قال تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). وشاهد ذلك أن أكثر علماء السلف والخلف لا أنساب لهم يتفاخر بها، بل كثير من علماء السلف موال ومع ذلك هم سادات الأمة وينابيع الرحمة، وذووا الأنساب العلية الذين ليسوا كذلك في مواطن جهلهم نسيا منسيا، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله يرفع بهذا الدين أقواما ويضع به آخرين" ويؤيده ما ورد في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام: "يا صفية عمة محمد، يا فاطمة بنت محمد، ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئا. اهـ.
وبذلك يتبين أن ذكر أبي طالب أو غيره لمثل هذا المقصد ونحوه لا حرج فيه، بل هو موافق لغرض شرعي. وراجعي في ذلك الفتويين: 8306، 121295.
وأما مسألة نسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سبق أن بينا أنه صلى الله عليه وسلم خير أهل الأرض نسبا، كما في الفتوى رقم: 124617.
وهذا لا يتعارض مع وجود أحد من أهل الكفر والشرك في نسبه صلى الله عليه وسلم، لأن شرف النسب يثبت لذاته بغض النظر عن الدين وفضيلة الذات، ولذلك قال الله تعالى في حق الخليل إبراهيم: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ. {الصافات: 113}. فالنسب يثبت لكونه من الذرية، حتى ولو كان ظالما لنفسه.
وقد ذكر شيخ الإسلام في (منهاج السنة) أن أهل السنة والجماعة يقولون : "بنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل بني آدم. وهذا هو المنقول عن أئمة السنة، كما ذكره حرب الكرماني عمن لقيهم مثل أحمد وإسحاق وسعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي وغيرهم." انتهى
فهذا شرف النسب، ولا يعارض ذلك ما دلت عليه نصوص الوحي من تفضيل أهل التقوى، فإن أتقياء العرب وقريش وبني هاشم أفضل من أتقياء غيرهم إذا تساوى الجميع في درجة التقوى، وأما الكفار والفجار منهم، فإنهم لا يساوون شيئا بالنسبة لأتقياء المسلمين، فإن الكفار هم شر الدواب عند الله. كما سبق بيانه في الفتوى رقم : 53423.
وأخيرا ننبه السائلة على أن قولها: (بعض الناس نسبهم كلهم مسلمون من جدهم الأكبر إليهم) ليس بصحيح، فإنه ما من عربي يصل نسبه إلى الآباء قبل عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلا ولابد أن يكون فيه من ليسوا بموحدين، فقد ثبت في الحديث: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب. رواه مسلم. والله أعلم.