عنوان الفتوى : مقولة أعاهد الله ألا أفعل كذا هل هي يمين أم نذر ويمين
أتمنى مشايخي أشد حكم في هذه المسألة وأوسط حكم و أسهل حكم من غير إحالتي إلى جواب سابق. أتمنى ذالك لو تكرمتم. قلت في يوم من الايام أعاهد الله تعالى أن لا أرى التلفاز، أنا الآن لو أردت أن ارى فقط البرامج المفيدة مثل المحاضرات الدينية والمواعظ والدروس الشرعية، وأخبار المسلمين. هل يحرم ذلك أم لي أن أرى المفيد من غير كراهة؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الشرع قد حض على الوفاء بالعهد ولا سيما إذا كان العهد مع الله فقد قال الله تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. {النحل:91}. وقال تعالى: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً. {الإسراء:34}.
وقال تعالى: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ*فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ. {التوبة: 75، 77}.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى الذين ينقضون عهدهم بالخسران في قوله تعالى: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.{ البقرة:27}.
وقد اختلف أهل العلم فيمن قال (أعاهد الله على كذا) هل يكون يمينا، أو نذرا ويمينا، أو لا يلزمه شيء؟
فذهبت الحنفية إلى أنها من الأيمان، لأن اليمين هي عهد الله على تحقيق شيء أونفيه، قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا. فجعل العهد يميناً، قال صاحب الاختيار من الحنفية: ولو قال لعمر الله.... أو عهد الله، ... فهو يمين.
وللمالكية قولان كما في مختصر خليل: وفي أعاهد الله قولان.
قال ابن عبد البر في التمهيد: واختلفوا فيمن حلف بحق الله أو بعهد الله أو ميثاقه أو نحو ذلك، فقال مالك من حلف بحق الله فهي يمين قال: وكذلك عهد الله وميثاقه وكفالته وعزته وقدرته وسلطانه وجميع صفات الله وأسمائه هي أيمان كلها فيها الكفارة، وكذلك لعمر الله وأيم الله. وقال الشافعي: يمين إن نوى بها اليمين وإن لم يرد اليمين فليست بيمين. وقال أبو حنيفة: إن قال وحق الله فهي يمين فيها كفارة. انتهى منه بتصرف يسير.
وقال الدردير في شرحه: أظهرها ليس بيمين. وسلم له ذلك الدسوقي في حاشيته.
أما الحنابلة فمذهبهم أنها يمين.
قال ابن قدامة في المغني: إذا حلف بالعهد أو قال عهد الله وكفالته، فذلك يمين يجب تكفيرها إذا حنث فيها.
وأما الشافعية فذهبوا إلى أنها لا تكون يميناً إلا بالنية كما في تحفة المحتاج وغيره، وهذا رواية عن أحمد، كما في الإنصاف، والراجح أنها تارة تكون يميناً ونذراً وتارة يميناً فقط، فإن التزم بها قربة وطاعة فهي نذر ويمين، كما لو قال "أعاهد الله أن أحج هذا العام"، وكما في قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. [التوبة:75].
وإن التزم بها ما ليس بقربة فهي يمين لا نذر، كما لو قال "أعاهد الله ألا أكلم فلاناً" وإلى هذا التفصيل ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية فقال رحمه الله: فإذا قال أعاهدُ الله أني أحج العام فهو نذر وعهد ويمين، وإن قال لا أكلم زيداً فيمين وعهد لا نذر.
ثم إنه يتعين أن ينظر في نيتك والسبب الحامل لك على الحلف، فإن كان الباعث على الحلف، هو تحفظك من النظر للحرام – وهذا هو ما نظنه بك – فإن نظر القنوات المفيدة السالمة من الحرام لا حرج عليك فيه لأن سبب الحلف الذي يسميه بعض الفقهاء بالبساط يخصص اليمين.
ففي الشرح الكبير للشيخ أحمد الدردير عند قول خليل: ثم بساط يمينه ... قال : ثم إن عدمت النية أو لم تضبط، خصص اليمين وقيد بالبساط، وهو السبب الحامل على اليمين، إذ هو مظنة النية وليس هو انتقالا عنها، ومثلوا لذلك بمن أراد أن يشتري شيئا فوجد عليه الزحام، فحلف ألا يشتريه في ذلك اليوم، وبعد قليل خفت الزحمة أو وجده في مكان آخر لا زحام فيه فاشتراه، فإنه لا يحنث، لأن السبب الذي حمله على اليمين هو الزحام وقد زال.
وقال ابن عبد البر في الكافي: الأصل في هذا الباب مراعاة ما نوى الحالف، فإن لم تكن له نية نظر في بساط قصته وما أثاره على الحلف، ثم حكم عليه بالأغلب من ذلك في نفوس أهل وقته.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين بعد أن ذكر أقوال العلماء ونقل نصوصهم الدالة على اعتبار البساط : والمقصود أن النية تؤثر في اليمين تخصيصا وتعميما، والسبب يقوم مقامها عند عدمها، ويدل عليها فيؤثر ما تؤثره، وهذا هو الذي يتعين الإفتاء به ولا يحمل الناس على ما يقطع أنهم لم يريدوه بأيمانهم. اهـ.
والله أعلم.