عنوان الفتوى : الكلام حال الأذان والإقامة وقراءة إمام لا تقتدي به
عند ما يحين وقت الصلاة نسمع الأذان والإقامة والقراءة والصلاة كاملة ولكن بصوت منخفض لبعد المسجد عنا قليلا، وإذا تكلمنا ونحن في البيت ولو بصوت منخفض فإن صوتنا بالتأكيد سيعلو على صوت الإمام وهو يؤذن أو يقيم أو يقرأ أو على أقل احتمال سيساويه إلا إذا كان كلامنا همسا، وأنا أخاف أن يحبط اللَّـه أعمالي كما جاء في سورة الحجرات. ما المقصود بحبوط الأعمال في الآية الكريمة؟ أهو الكفر؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فليس الإنصات لصوت المؤذن ولا لإقامة المقيم ولا لقراءة الإمام الذي لست معه في الصلاة واجبا، وليس الكلام حال أذان المؤذن أو إقامته أو قراءة إمام لا تتابعه في الصلاة بمحرم ولا هو موجب لحبوط العمل، وإن كانت متابعة المؤذن مستحبة ولها فضل عظيم، وكذا الاستماع للقرآن حيث تلي مشروع، وله من الفضل ما لا يخفى، ولكن ليس ذلك بواجب كما ذكرنا.
فقد روى مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنه أخبره: أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يُصَلُّون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون قال ثعلبة: جلسنا نتحدث. فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم منا أحد.
قال ابن شهاب: فخروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام.
وهذا بين واضح في عدم تحريم الكلام حال الأذان، وكذا لا يجب الإنصات لقراءة القرآن إلا لمن كان مأموما فيجب عليه الإنصات لقراءة الإمام، وكذا يجب الإنصات في خطبة الجمعة، وعلى هذا حمل عامة السلف قوله تعالى: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون.
قال الحافظ ابن كثير في الكلام على هذه الآية ما عبارته: وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن ليث، عن مجاهد قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم، وكذا قال سعيد بن جبير، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والشعبي، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن المراد بذلك في الصلاة. وقال شعبة، عن منصور، سمعت إبراهيم بن أبي حرة يحدث أنه سمع مجاهدا يقول في هذه الآية: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا }. قال: في الصلاة والخطبة يوم الجمعة. وكذا روى ابن جريج عن عطاء، مثله. وقال ابن المبارك، عن بَقِيَّة: سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قال: الإنصات يوم الأضحى، ويوم الفطر، ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام من الصلاة. وهذا اختيار ابن جرير أن المراد بذلك الإنصات في الصلاة وفي الخطبة؛ لما جاء في الأحاديث من الأمر بالإنصات خلف الإمام وحال الخطبة. انتهى بتصرف يسير.
وبهذا يتبين لك ما ذكرناه من عدم وجوب الإنصات في الأحوال المذكورة، وأن الكلام حينئذ لا حرج فيه وليس هو موجبا لحبوط العمل.
وأما الآية المذكورة فهي أمر للصحابة رضي الله عنهم بألا يرفعوا أصواتهم حال مخاطبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم تأدبا معه وإجلالا له وليست هذه الآية من هذا الباب، وحبوط العمل المذكور في الآية ليس المراد به الشرك وإنما المراد به أن هذه السيئة وهي إغضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهر له بالقول ورفع الصوت بحضرته سيئة عظيمة تحبط حسناتهم.
قال السعدي في تفسير:لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى: ينهى عباده تعالى لطفا بهم ورحمة عن إبطال صدقاتهم بالمنّ والأذى، ففيه أن المنّ والأذى يبطل الصدقة، ويستدل بهذا على أن الأعمال السيئة تبطل الأعمال الحسنة، كما قال تعالى: { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون }. فكما أن الحسنات يذهبن السيئات فالسيئات تبطل ما قابلها من الحسنات، وفي هذه الآية مع قوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم }. حث على تكميل الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها لئلا يضيع العمل سدى. انتهى.
وقال في تفسير الآية: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.: أي: لا يرفع المخاطب له، صوته معه، فوق صوته، ولا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت، ويخاطبه بأدب ولين، وتعظيم وتكريم، وإجلال وإعظام، ولا يكون الرسول كأحدهم، بل يميزوه في خطابهم، كما تميز عن غيره، في وجوب حقه على الأمة، ووجوب الإيمان به، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام بذلك، محذورًا، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر، كما أن الأدب معه، من أسباب [حصول الثواب و] قبول الأعمال. انتهى.
والله أعلم.