عنوان الفتوى : حكم تمثيل الأحاديث النبوية، ووضع صور توضيحية أثناء قراءة القرآن
هناك قنوات تأتي ببعض الأحاديث ، وتمثلها ، وتأتي ببعض الآيات ، وتكون الخلفية على نفس الآية ، يعني : إذا كانت الآيات تتحدث عن الجنَّة ، فيأتون بصور حدائق، ما حكم ذلك؟
الحمد لله
أولاً :
قد اطلعنا على جملة من مقاطع مصورة فيها تمثيل لأحاديث نبوية ، ويمكن تقسيم ما رأيناه إلى أقسام ثلاثة :
الأول :
مقاطع ساعدت الصورة فيها على فهم الحديث ، وليس فيها محظور شرعي
ومن أمثلة ذلك مما رأيناه :
أ. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (مَثَلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِى فِى النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا ...) رواه مسلم (2248) .
وفي المقطع المرئي : رجل أوقد ناراً ، وفراشات ، ودواب ، اجتمعن عليها ، ووقعن فيها ، وهو يذبها عن النار ، وهو أمر مطابق لما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم من أمرٍ يتكرر مع كل من يوقد ناراً في صحراء ، أو فضاء .
ب. عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ الرِّيشَةِ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ بِفَلَاةٍ) رواه ابن ماجه ( 88 ) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه .
وفي المقطع المرئي : ريشة تتقلب في فلاة بفعل الرياح ، وليس في هذا محظور شرعي .
ج. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَثَلُ المُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ مَا أَخَذْتَ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ نَفَعَكَ) رواه الطبراني (12/411) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2285) .
وفي المقطع المرئي : نخلة يؤخذ منها أجزاء منها ، وتستعمل فيما ينتفع به الناس ، وهو أمر مطابق يقرِّب الصورة لذهن من يستمع الحديث ، ويراه واقعاً عمليّاً .
والأمثلة على هذا القسم كثيرة .
القسم الثاني :
مقاطع لم تفد الصورة كثيراً في تقريب معنى الحديث ؛ للبعد عن الصورة الحقيقية ، وبين المشهد التمثيلي .
ومن أمثلة ما رأيناه في ذلك :
أ. عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ) رواه مسلم (779) .
والمقطع المرئي وإن كان فيه صورتان متقابلتان لبيت يُذكر الله فيه ، وآخر فيه غفلة عن ذلك: لكنه لم يظهر فيه الفرق بين الحياة ، والموت .
ب. عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) رواه مسلم (2585) .
والمقطع المرئي لم يعبِّر عن حقيقة تداعي البدن لشكوى عضو منه ، بل كانت الصورة لمريض لم تظهر عليه أعراض الحمى ، ولا السهر ، بل كان نائماً ! .
القسم الثالث :
ومن أسوء ما رأيناه ، وقفَّ شعرنا من مشاهدته : هو مقطع تمثيلي لرجل ذهب يغرس فسيلة ، فصوِّر وقوع يوم القيامة ! فاستمر في غرسها ، وفي ظنِّ القائمين على إنشاء هذا المقطع أن الأمر مطابق لحديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ) رواه أحمد (20/296) وصححه محققو المسند .
وقد سئل الشيخ العلامة عبد الرحمن البرَّاك حفظه الله ، عن هذا المقطع تحديداً ، فأنكره ، وبيَّن السبب ، فنكتفي بذِكر ما قاله الشيخ حفظه الله :
نص السؤال :
في قناة " المجد " مقطع بعنوان (أمثال الحديث النبوي) وقد عرضوا فيه صورة رجل يحمل معه فسيلة نخل ، ثم عرضوا في السماء بروقاً ، وسحاباً أسود ، وأصواتاً ، ورعوداً ، ثم ظهر على الشاشة نص حديث : (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) ، ثم قام الرجل بغرس النخلة ، وانتهى المقطع ، فما حكم هذا العمل؟
فأجاب :
"الحمد لله ، من الأمور المسلَّمة أن حسن القصد لا يُسوِّغ الوسيلة ، بل غاية ما يحصل : رفع الإثم ، إذا لم تكن المخالفة الشرعية مشوبة بهوى ، وحقائق الغيب من الماضي ، والحاضر ، والمستقبل لا يمكن تصورها ، فضلاً عن تصويرها ! ومِن ذلك : أحوال القيامة ؛ كالبعث ، والصراط ، والميزان ، وما يسبق ذلك من النفخ في الصور ، وما ينشأ عنه من فزع ، وصعق ، وتغيرات في العالم العلوي ، والسفلي ، وما يصاحب ذلك من أهوال .
وما تضمنه هذا الحديث المذكور في السؤال : يفهمه كل مَن يفهم العربية ، فإنه يعرف معنى النخلة ، ويعرف معنى الغرس ، ومعنى الرجل ، وإن كان لا يتصور حقيقة الهول ، فلا معنى لتوضيح الواضح ! ولا يمكن تصور الهول عند قيام الساعة ، وهذا الحديث إن كان صحيحاً : فمقصودة : المبالغة في الحث على غرس الشجر المثمر ؛ لما فيه مِن النفع العام ، والأجر المترتب على ذلك .
ومعلوم أنه إذا قامت الساعة : فلن يُستطاع غرس ، ولا يُرجى ، ولا يُجنى ثمر ، فقد ذهب ما هنالك ، وانشغل كلٌّ بنفسه .
إذا ثبت هذا : فنحب من إخواننا القائمين على "قناة المجد" وفقهم الله أن يتجنبوا تمثيل الغيبيات ، ويكتفوا بذِكر النصوص ، وتفسير ، وشرح ، ما تدعو إليه الحاجة ، فجزاهم الله خيراً على ما أرادوا ، وقدموا من الخير ، وعفا عما يقع من أخطاء ، إنه تعالى سميع الدعاء ،
ومما يلاحظ على هذا المقطع : أن عنوانه غير مطابق لمضمونه ، وكأن الذي وضع العنوان اختلط عليه المثل بالتمثيل الاصطلاحي ، فإن هذا الحديث ليس من " أمثال الحديث " ، وإنما أضيف إليه التمثيل ، وصلَّى الله وسلم على محمّد" انتهى . وفي ظننا أن أحاديث الأمثال هي أبعد ما يكون عن الوقوع في المحذور الشرعي ؛ فلا حرج من تصويرها وتقديمها للمشاهد ؛ لتقريب الصورة لذهنه ، بخلاف غيرها من الأحاديث ، فقد يوقع في شيء من المحظور ، مع كونه لم يفد كثيراً ـ كما سبق ـ ، في تقريب المعنى لمن يسمعه ويشاهده ، وإن كان الحديث في أمرٍ غيبي مما لا يمكن تصويره على الحقيقة : صار الوقوع في المحظور حتميّاً ، فالابتعاد عن القسم الثالث : واجب ، وعن الثاني : أسلم .
وفي جوابي السؤالين ( 14488 ) و ( 10836 ) بيان شروط التمثيل ، فلتُنظر لمن أراد أن يمثِّل غير ما ذكرناه من أحاديث " الأمثال " ؛ خشية الوقوع في الإثم .
ثانياً :
قد قرأنا لمن يُنكر ذلك التمثيل لأحاديث الأمثال ، ولم يظهر لنا صواب قوله ، وبيان ذلك من وجوه :
1. أن الفعل نفسه ليس بعبادة يفعلونه من أجل التقرب إلى الله .
2. أن الأمثال بحد ذاتها هي لتقريب الشيء مراد إيصاله للناس ، فما يحصل من تمثيل لذلك المثال ليس فيه ما يُنكر ، وهو مؤدٍ لدور المثال نفسه .
3. استعمل النبي صلى الله عليه وسلم طرقاً كثيرة من أجل إيصال معانٍ جليلة للصحابة ، ومن ذلك :
أ. تقريب معنى رحمة الله تعالى بالعباد بصورة واقعية لامرأة وابنها :
فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا : لَا ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ ، فَقَالَ : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا) رواه البخاري (5653) ومسلم (2754).
ب. تقريب معنى رؤية الله تعالى برؤية شيء محسوس مشاهَد .
فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي الْبَدْرَ فَقَالَ : (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ ، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ) رواه البخاري (529) ومسلم (633) .
4. استعمال النبي صلى الله عليه وسلم للرسم لتوضيح الصورة في أذهان من يراه .
ومن أمثلة ذلك :
أ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّاً ثُمَّ قَالَ : (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ) ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ : (هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : ( إِنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) رواه أحمد (7/208) وحسَّنه المحققون .
ب- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مسْعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ وَخَطَّ خُطَطًا صِغَاراً إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ ، وَقَالَ : ( هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ - أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ - وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا) رواه البخاري ( 6054 ) .
فهذان الحديثان فيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً كان يستعمل ما نسميه الآن "الرسم التوضيحي" لبيان معنى بعض الأحاديث .
ثالثاً :
أما جعل لوحات خلفية تعبيرية وتصويرية مع قراءة القرآن : فينبغي ترك ذلك ؛ لأسباب ، منها :
1. الغالب على الآيات القرآنية أنها تحوي معانٍ متعددة ، وفي كل كلمة من القرآن إعجاز بلاغي ، فالصورة التي ستكون مع القراءة ستعطل التأمل في الآية ، وسينحصر الذهن في كلمة فيها ، كصورة فاكهة ، أو نهر ، ويترك ما عداها .
2. وجود صورة مع قراءة الآيات قد يأتي بغير المراد من الآية ، فمثلاً : وضع صورة جبل مع قراءة قوله تعالى : ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ) طـه/ 105 : من شأنه أن يصرف الذهن عن المراد من التهويل بما يحدث يوم القيامة ، فالجبل لا يكاد يجهله أحد ، وأما النسف له : فهي الصورة التي لا يمكن لأحدٍ أن يصورها في ذهن الناس ، فضلاً عن تصويرها ! .
3. وضع الصور مع القراءة لا يطابق الواقع في الآخرة ، فصورة الأشجار ، والفاكهة ، والأنهار ، وغيرها مما يشبهها : ليست هي ذاتها التي في الآخرة ، وإنما الاشتراك بينهما في الأسماء ، لا غير ، فصار وضع تلك الصور مع القراءة لا يعبِّر عن الحقيقة .
4. قد تشتمل الآية على معنيين متقابلين ، فكيف يمكن جمع ذلك في وقت واحد أثناء قراءة الآية ؟! وذلك مثل قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) الحجر/ 49 ، 50 ، مثل قوله تعالى : ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) النساء/ 165 .
وكثير من آيات القرآن الكريم تذكر المقابلة بين جزاء أهل الجنة وجزاء أهل النار ، فكيف سيتم المقابلة بينهما في الصورة ؟
5. وأخيراً : فقد أمر المسلمون عند سماع القرآن بالاستماع والإنصات ، ومن شأن النظر في الصور والمشاهد أن يمنع من تفكر القلب ، والتدبر بآيات الله تعالى ، ومثل هذا ليس مأموراً به من استمع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم
أسئلة متعلقة أخري |
---|
حكم تمثيل الأحاديث النبوية، ووضع صور توضيحية أثناء قراءة القرآن |