عنوان الفتوى : متى تكون طاعة المخلوق شركا وحكم العمل في المحاكم الوضعية
جزاكم الله خير الجزاء على هذا الموقع وجعل أعمالكم خالصة لوجهه الكريم.قرأت في كتاب -الإسلام- لكاتبه سعيد حوى : (وإن مما ينقض دعوى الشهادتين أن تعطى الطاعة الاختيارية اعتقادا لغير الله بغير إذنه إذ من معاني لا إله إلا الله : لا مطاع إلا الله. والطاعة التي أذن لنا الله فيها هي أن نطيع رسوله لأن طاعة رسوله طاعة له"من يطع الرسول فقد أطاع الله".... وطاعة أولي الأمر إذا كانت على كتاب الله وسنة رسوله، فإذا انحرفوا فلا طاعة لهم في معصية الله، سواء كانوا علماء دين أو أمراء....وفي الحديث "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"....) إلى أن قال (فلا يطيع المسلم في ذات الله أحدا : لا نفسه ولا شيطانه ولا كافرا ولا ضالا ولا مبتدعا فاسقا ولا مسرفا ولا غافلا ...فمن أطعته من هؤلاء – معتقدا جواز طاعته في معصية الله- اتخذته إلها، وإذا اتخذته إلها كفرت،"إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر". إن مظهر ردة هؤلاء طاعتهم لمن كره ما نزل الله في بعض الأمر...)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فطاعة المخلوق استكبارا عن طاعة الله، أو طاعته في تحريم الحلال وتحليل الحرام اعتقادا، يعد من الكفر الأكبر المخرج من الملة والعياذ بالله.
وأما طاعته في المعاصي بمعنى متابعته عليها مع اعتقاد حرمتها فلا تخرج من الملة، بل هي بحسبها، فتكون كبيرة في الكبائر، وصغيرة في الصغائر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): من استكبر عن بعض عبادة الله سامعًا مطيعًا في ذلك لغيره، لم يحقق قول: لا إله إلا اللّه، في هذا المقام. وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم اللّه وتحريم ما أحل اللّه يكونون على وجهين: أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين اللّه فيتبعوهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم اللّه، وتحريم ما أحل اللّه، اتباعًا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله اللّه ورسوله شركًا وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك، دون ما قاله اللّه ورسوله مشركًا مثل هؤلاء. والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتًا، لكنهم أطاعوهم في معصية اللّه، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب اهـ.
وقد عقد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في (كتاب التوحيد) بابا لقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا *فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا {النساء:60-62} قال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح كتاب التوحيد: هذا الباب من الأبواب العظيمة المهمة في هذا الكتاب، وذلك لأن إفراد الله جل وعلا بالوحدانية في ربوبيته وفي إلهيته يتضمن ويقتضي ويستلزم - جميعا - أن يفرد في الحكم، فكما أنه جل وعلا لا حكم إلا حكمه في ملكوته، فكذلك يجب أن يكون لا حكم إلا حكمه فيما يتخاصم فيه الناس وفي الفصل بينهم فالله جل وعلا هو الحكم، وإليه الحكم سبحانه، قال جل وعلا: { فالحكم لله العلي الكبير } [غافر: 12] وقال جل وعلا: { إن الحكم إلا لله } [الأنعام: 57 ] فتوحيد الله - جل وعلا - في الطاعة وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يكون إلا بأن يكون العباد محكمين لما أنزل الله جل وعلا على رسوله .
فترك تحكيم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بحكم الجاهلية أو بحكم القوانين أو بحكم سواليف البادية أو بكل حكم مخالف لحكم الله جل وعلا، هذا من الكفر الأكبر بالله جل جلاله، ومما يناقض كلمة التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وقد عقد الشيخ - رحمه الله - هذا الباب ليبين أن الحكم بما أنزل الله فرض، وأن ترك الحكم بما أنزل الله وتحكيم غير ما أنزل الله في شؤون المتخاصمين وتنزيل ذلك منزلة القرآن أن ذلك شرك أكبر بالله جل وعلا، وكفر مخرج من ملة الإسلام.
قال الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - في أول رسالته " تحكيم القوانين " : إن من الكفر الأكبر المستبين: تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين ليكون حكما بين العالمين، مناقضة ومحادة لما نزل من رب العالمين . اهـ كلامه بمعناه.
فلا شك أن إفراد الله بالطاعة وإفراده بالحكم وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، كل ذلك يقتضي ألا يحكم إلا بشرعه؛ فلهذا كان الحكم بالقوانين الوضعية أو الحكم بسواليف البادية من الكفر الأكبر بالله جل وعلا؛ لقوله تعالى هنا في هذه الآية: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة جلية، وهي: أن التحاكم إلى غير شرع الله قدح في أصل التوحيد، وأن الحكم بشرع الله واجب، وأن تحكيم القوانين أو سواليف البادية أو أمور الجاهلية مناف لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله اهـ.
وعقد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أيضا بابا لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ، وأورد فيه قوله تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {التوبة: 31} قال الشيخ سليمان آل الشيخ في (تيسير العزيز الحميد): مراد المصنف رحمه اللّه بإيراد الآية هنا أن الطاعة في تحريم الحلال، وتحليل الحرام، من العبادة المنفية من غير اللّه تعالى، ولهذا فسرت العبادة بالطاعة، وفسر الإله بالمعبود المطاع، فمن أطاع مخلوقًا في ذلك فقد عبده، إذ معنى التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا اللّه يقتضي إفراد اللّه بالطاعة، وإفراد الرسول بالمتابعة، فإن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أطاع اللّه، وهذا أعظم ما يبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا اللّه، لأنها تقتضي نفي الشرك في الطاعة اهـ.
وقال الشيخ الفوزان في شرح كتاب التوحيد: مناسبة الآية للباب: أنها دلت على أن من معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله إفرادَ الله بالطاعة في تحليل ما أحل وتحريم ما حرم، وأن من اتخذ شخصاً من دون الله يحلل ما أحل ويحرم ما حرَّم فهو مشرك اهـ.
وقال ابن القاسم في حاشيته على كتاب التوحيد: دلت على أن من أطاع غير الله في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله فقد اتخذه ربا ومعبودا، وجعله لله شريكا، وذلك ينافي التوحيد، فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله فقد اتخذه المطيع ربا ومعبودا، والرب هو المعبود، ولا يطلق معرفا إلا على الله تعالى، قال تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة اهـ.
وقد سبق لنا في الفتوى رقم: 7386، أن من أنواع الشرك في توحيد الإلهية والعبادة: شرك الطاعة، وهو الطاعة في التحليل والتحريم بغير سلطان من الله.
وأما بالنسبة للشطر الثاني من السؤال فقد بينا سابقا حرمة العمل في المؤسسات والمحاكم الوضعية التي فيها مخالفة أو مراغمة لشرع الله تعالى، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 17605، 9542، 20011، 60054، 35330، 10939.
ومن أهل العلم من يبيح ذلك لمن له قدرة على دفع الظلم عن المسلمين أو تقليله، مع اجتهاده في الالتزام بشرع الله بحسب الوسع والطاقة، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 56015، 18505.
تنبيه هام: جاء في النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه: والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتا إلخ هكذا جاء النقل في مجموع الفتاوى والصواب – والله تعالى أعلم –: ... بتحريم الحرام وتحليل الحلال ...، وقد ذكر هذه الملاحظة الشيخ ناصر بن حمد الفهد في كتابه صيانة مجموع الفتاوى حيث قال ص 59 : "وقوله هنا: بتحريم الحلال وتحليل الحرام" قد أشار عدد من أهل العلم إلى أنها قد تكون تصحيفا من النساخ، والأظهر أن العبارة هي: بتحريم الحرام وتحليل الحلال ... انتهى والله أعلم.