عنوان الفتوى : عوامل الثبات على الدين في أماكن الفتنة
أشكو من رواسب الجاهلية بعد التزامي منذ سنتين، واكتفيت بالمظهر فقط. لم أحقق أي تقدم يذكر لأني مازلت أداوم على الكبائر رغم علمي بذلك كالاستمناء والنظر إلى ما حرم الله. أصدقكم القول فإني مفتون بالنساء أولا لأني صاحب شهوة قوية، وأيضا لكثرة الاختلاط. أنا من تونس. نحن والله في هاوية إلا من رحم ربي. أحس بالإقبال على الدار الآخرة حين لقاء الجماعة في الخفاء. فنحن في وضع لا يحسد عليه من جهل بالدين وجور السلطان وإقبال الدنيا بفتنها علينا. هل في الهجرة حل حتى ولو لم أجد عملا حين أها جر. فأنا الحمد لله أعمل مهندسا ونويت الزواج الذي إن شاء الله سيعصمني من فتنة النساء؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالالتزام الذي ينبغي لكل مسلم تحقيقه هو: مداومة الاستقامة على الهدى، وقوة التمسك بالتقى، وإلجام النفس وقسرها على سلوك طريق الحق والخير، مع سرعة الأوبة والتوبة حال ملابسة الإثم، أو الركون إلى الدنيا. وبهذا يكون الالتزام بالدين بمعنى مداومة الاستقامة والاستمساك بالشريعة والثبات على طاعة الله ورسوله وسلوك طريق الهداية ، وهو تكليف يصبر عليه المؤمن القوي، ويسارع إليه السابقون بالخيرات رغبة فيما عند الله من ثواب وحسن عاقبة.
وما في بلدكم من ابتلاء وتضييق وانتشار للفتن كل هذا من الابتلاء الذي يتبين به الصادق من الكاذب كما قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. {العنكبوت:2-3}.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ستكون شدة وذكر ما يعين عليها فقال: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ. رواه الترمذي وصححه الألباني.
قَالَ الْقَارِي: الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ كَمَا لَا يُمْكِنُ الْقَبْضُ عَلَى الْجَمْرَةِ إِلَّا بِصَبْرٍ شَدِيدٍ وَتَحَمُّلِ غَلَبَةِ الْمَشَقَّةِ كَذَلِكَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يُتَصَوَّرُ حِفْظُ دِينِهِ وَنُورِ إِيمَانِهِ إِلَّا بِصَبْرٍ عَظِيمٍ. انتهى.
وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: وهذا الحديث أيضا يقتضي خبرا وإرشادا: أما الخبر: فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في آخر الزمان يقل الخير وأسبابه، ويكثر الشر وأسبابه، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدين من الناس أقل القليل، وهذا القليل في حالة شدة ومشقة عظيمة، كحالة القابض على الجمر، من قوة المعارضين، وكثرة الفتن المضلة، فتن الشبهات والشكوك والإلحاد، وفتن الشهوات وانصراف الخلق إلى الدنيا وانهماكهم فيها، ظاهرا وباطنا، وضعف الإيمان، وشدة التفرد لقلة المعين والمساعد. ولكن المتمسك بدينه، القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق التي لا يصمد لها إلا أهل البصيرة واليقين، وأهل الإيمان المتين، من أفضل الخلق، وأرفعهم عند الله درجة، وأعظمهم عنده قدرا.
وأما الإرشاد: فإنه إرشاد لأمته، أن يوطنوا أنفسهم على هذه الحالة، وأن يعرفوا أنه لا بد منها، وأن من اقتحم هذه العقبات، وصبر على دينه وإيمانه - مع هذه المعارضات - فإن له عند الله أعلى الدرجات، وسيعينه مولاه على ما يحبه ويرضاه، فإن المعونة على قدر المؤونة. انتهى.
فعليكم بالصبر والإيمان الذي تخالط بشاشته القلوب فتمنع صاحبها من الوقوع في الرذيلة والتخلي عن الحق مهما كانت الفتن والمغريات، فقد تكفل الله بحفظ الصادق في استقامته وعدم إضرار المفسدين له مهما فعلوا كما أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. رواه البخاري ومسلم.
وضعف المستقيم أحيانا وعصيانه لا يجعله يترك مجاهدة النفس على ترك المعصية، ففي هذه المجاهدة هداية عظيمة تكفل الله بها فقال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. {العنكبوت:69}. ولابد من إحداث توبة بعد كل ذنب، وعدم اليأس من المغفرة مهما عظم الذنب فعفو الله أعظم وكرمه أوسع، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. {الزمر:53}.
واعلم أنه لا سبيل إلى الدرجات العلا في الجنة إلا بالاستمساك بما شرع الله ورسوله، فالجنة غالية غالية ولابد من الصبر على المحن في سبيل ذلك، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:...أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ. رواه الترمذي وصححه الألباني. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ... رواه مسلم.
وصاغ ابن القيم هذا المعنى في نونيته المشهورة، فقال:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان
وراجع الفتوى رقم: 55774 ففيها توجيهات مهمة لتوقي الوقوع في حمأة الرذيلة.
وأما عن الاستمناء فقد ذكرنا أدلة تحريمه في الفتوى رقم: 5524. فراجعها.
وراجع الفتوى رقم: 3539. فقد بينا فيها أن الاختلاط بين الرجال والنساء محرم ومفاسده ظاهرة، وذكرنا في الفتويين: 17642، 21807، وجوب غض البصر وما يعين على ذلك.
وإن كنت تستطيع الهجرة إلى بلد مسلم تحفظ فيها دينك وتغض بصرك وتعبد ربك فهي واجبة عليك كما بينا في الفتوى رقم: 8328.
وإن كنت تقصد الهجرة إلى بلد غير مسلمة، فلا تجوز الهجرة إلا لحاجة أو ضرورة بشروط وضوابط سبق بيانها في الفتوى رقم: 2007. فراجعها.
وبادر بما تنويه من الزواج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.